قال: يا أبتِ؛ قل لي في “الشهوة” قولًا لا أسأل عنه أحدًا غيرك.
قال: أما قبلها فمزاحمةٌ واصطبارٌ، وأما خلالها فمدافعةٌ واختصارٌ، وأما بعدها فمراغمةٌ واعتبارٌ.
قال: ليست الشهوة حالًا مجملةً فيصلح لها هذا الإجمال؛ فزدني.
قال: يا بني؛ أما المزاحمة قبلها فبالطيبات والمباحات؛ زاحم بهنَّ وقتك ونفسك وجَهدك؛ فإن للشهوة مبتدأً وخبرًا؛ فأما مبتدؤها فجُوانيُّ وهو نازع النفس والحسِّ، وأما خبرها فبرَّانيٌّ وهو الفراغ، فإذا صادف مبتدؤها خبرَها فلا تسل عن تمام جملتها، وإن مُقارفة النهايات من مُشارفة البدايات.
وأما الاصطبار قبلها فمعناه ديمومة التصبر، والتصبر تكلف العبد الصبر، ومن تكلف شيئًا بلغه، وقد قيل: “المزاولات تعطي المَلَكَات، والتمرينات تُبلِّغ الكمالات”، يا بني؛ إن يكن النصر صبرَ ساعةٍ؛ فإن العافية من الحرام صبر لحظةٍ، يا بني؛ رُبَّ شهوة ساعةٍ أورثت ذل الدهر، وإن السلامة لا يعدلها شيءٌ، ومن تعفَّف تخفَّف، ولذاتُ الصبر عند أهلها أطيبُ وأوفى، وإن ذلك لمن عزم الأمور.
وأما المدافعة خلالها فنفسيةٌ وحسيةٌ؛ فأما النفسية فبالرَّغب والرَّهب؛ فأما الرَّغب فمناجاتها بتذكرة الله -جلَّ جلاله- الحانية: “قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ”، وتبصرة نبيه -صلَّى الله عليه وسلَّم- الرافعة: “إن الله -عزَّ وجلَّ- ليعجب من الشاب لا صبوة له”، وأما الرَّهب فما يكون بدَنس الحرام من عاجل الخزي، ولا خير في لذةٍ من بعدها النارُ، وأما المدافعة الحسية فالقيام من قعودٍ أو المشي من قيامٍ وبكل حركةٍ يُصرف بها المخُّ عن مشغوله والقلبُ عن مطلوبه، وإن ذكر الله ليجمع لك ذلك كله، وخيره “لا حول ولا قوة إلا بالله”؛ لا تحوَّل من هياجٍ إلى سكونٍ ولا قوة عليه إلا بالله.
وأما الاختصار خلالها فمعناه الاقتصاد فيها، وقد فصلته من قبلُ، لكن أجْمله لك تارةً أخرى:
الاقتصاد خلال الذنب ألا تسرف فيه؛ لا تستوف من ذنبك كل لذةٍ به.
إن كان ذنبك يُقضى بوسيلةٍ واحدةٍ؛ فلا تعدُها إلى غيرها؛ أسلمُ لنفسك حالًا ومآلًا.
إن كان ذنبك يُقضى بك وحدك؛ فلا تورِّط معك فيه غيرك؛ ذلك أخف لك عند ربك لو ذهبت عنك سَكْرتك، وهَبْ أن الوهاب وهبك منه توبةً؛ من أين لك توبة من انتهك بك حرمةً من حرماته؟!
وأما المراغمة بعدها فإغاظة الشيطان -على ما وسوس وزين- بتوبةٍ نصوحٍ عاجلةٍ، تفسد عليه قصده من إغوائك وهو سخط الله عليك؛ فلئن كان الذنب مكروهًا لله فإنه “يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ”.
وأما الاعتبار بعدها فالنظر إلى أسبابها العامة والخاصة ما ظهر منها وما بطن؛ لاجتنابها، وتأملِ عواقبها في القلب والعقل حالًا ومآلًا؛ فتستدل بما كان بها على ما لم يكن؛ فإن الشهوات أشباهٌ.
يا بني؛ أوصد الله على قلبك أبواب الفتن، وأعانك على ما فُتح عليك منها، وشغلك بمحابِّه ومنافعك عن مغاضبه ومضارِّك، وغفر لك ما سلف من آثامك وفات، وثبتك على صراطه السويِّ حتى الممات.