صباحك السبع المثاني.
كلِّيات الوجود، قواعد أمِّ الكتاب!
سورة الفاتحة أربعة مقاطع؛ لم يعزُب عنها من أمر الوجود كله شيءٌ، والوجود: الله، وخلقه، وأمره.
– الأول: “بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ”؛ بسملة مؤمني البرِيَّة في السماوات والأرض أجمعين.
مُفتتَح الخلق والأمر، ومُبتدأ المعاش والمعاد، وما دام اللهُ الأولَ الآخرَ الظاهرَ الباطنَ؛ فالبدء باسمه -في أمره- ضرورةٌ، والانتهاء إليه -من خلقه- صيرورةٌ، ولا يسمَّى الله -جلَّ جلاله- إلا على حقٍّ وإحسانٍ؛ في عبادته وفي مخالقة خلقه، ومن سمَّى الله على باطلٍ أو في بغيٍ؛ فقد كذَب نفسه ولم يضرَّ الله شيئًا، ولا تسمية لمشركٍ بالله شيئًا على شيءٍ؛ فإن البسملة معنى التوحيد ومقتضاه.
أما اختصاص البسملة باسمَي الرحمن الرحيم؛ فمقامٌ حقُّه لأولي الألباب الخضوع والدهشة.
– الثاني: “الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ”؛ تعرُّفُ الله -عزَّ ثناؤه- إلى عباده؛ بنعوت كماله وجماله وجلاله، لا أجمعَ من هذا ولا أمنعَ.
في “الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ” كمالُه، وفي “الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ” جمالُه، وفي “مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ” جلالُه.
أما جُمَلِ الإلهيات والنبوات والسمعيات فيها وفي حواشيها؛ فشيءٌ يُعجز ويَبهر؛ أصغرُ ذرةٍ فما دونها؛ إلى أكبر مجرَّةٍ فما فوقها؛ مُودَعَاتُ الأسرار بها، تبارك الله حميدًا مجيدًا.
– الثالث: “إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ”؛ حقُّ الله سبحانه وبحمده -ربًّا واحدًا أحدًا- على العبيد.
قد وجب عليهم -بما له تقدَّس من كمالٍ وجمالٍ وجلالٍ، وبما لهم من افتقارٍ إليه في كل حالٍ- أن يُفردوه بالعبادة باطنًا وظاهرًا؛ فأما الباطن فابتغاؤهم وجهَه الأعلى، وأما الظاهر فتحكيمهم شرعَه الأحلى، وأن يستعينوه على جميع ذلك، وإنَّ أوفاهم له عبادةً أعظمهم به استعانةً.
– الرابع: “اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّآلِّينَ”؛ منهاج علائق الربانيين مع الحق وفي الخلق، كمالٌ في تمامٍ، وتمامٌ في كمالٍ.
الصراط المستقيم هو سبيل الله الهادية العالمين حصرًا، وسؤال الله إياه -على هذا الوجه- طلب استيفاءٍ للكمال والإحسان؛ بما تضمنه معنى الصراط أولًا، وبما في نعته بالاستقامة ثانيًا، وأضافه -علا وتعالى- إلى المنعَم عليهم وحدهم؛ لأنهم الذين عرَفوه فلزموه؛ فأضحوا -بذلك- والصراطُ شيئًا واحدًا، ونفاه عن طائفةٍ عرَفته ولم تتبعه وهم المغضوب عليهم؛ وعن الضالين عن معرفته، ولا يكون الهدى به إلا على معاداة الآخرين وموالاة الأولين، وليس في الدنيا والآخرة إلا صراطٌ واحدٌ، وأحوال أهله عليه في الدارين واحدةٌ، هي هي؛ كما قال ابن مسعودٍ -رضي الله عنه-: “تركنا محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- في أدناه، وطرفُه في الجنة، وعن يمينه جوادُّ، وعن يساره جوادُّ، وثَمَّ رجالٌ يدعون من مرَّ بهم؛ فمن أخذ في تلك الجوادِّ انتهت به إلى النار، ومن أخذ على الصراط انتهى به إلى الجنة”.
تلك كلِّيات فاتحة الوجود؛ لا تفسيرًا قصدتُ إليها؛ بل إشارةَ طائفٍ حواليها، والله ورسوله أعلم.