ابتلاه الله رحيمًا حكيمًا، فصبر،

ابتلاه الله رحيمًا حكيمًا، فصبر، فأخذ قلبه في اليقظة، وعقله في الصحو، وروحه في السكينة.

زاد الله بلاءه، فصبر، فذل قلبه، وأخبتت نفسه، وكُفَّ لسانه عن مغاضب الله رطبًا بذكره، وحُفظت جوارحه عن مساخط الله شغلًا بمراضيه؛ الآن لانت نفسه بعدما جاهدها (في العافية) طويلًا.

شدَّد الله بلاءه، فصبر، فشهد في قلبه حقائق عبوديات ربه، تلك التي خُلق لأجلها وكان يغويه براحُ العافية عنها؛ الآن يذوق معنى التألُّه، ومعنى التجرد، ومعنى الافتقار، ومعنى الأنس، الآن يتحقق بالتفويض على وجهه، وبالتوكل على وجهه، وبالخوف على وجهه، وبالرجاء على وجهه.

ضاعف الله بلاءه، فصبر، فبُغِّضت إليه المعاصي قريبُها قبل بعيدها، وحُبِّبت إليه الطاعات بعيدُها قبل قريبها؛ الآن هو “عبدٌ” كما أراد الله له، له من حقيقة العبادة -لا من صورتها- أوفرُ نصيبٍ.

أطال الله بلاءه، فصبر، فبات بصرُه بدناءة الدنيا حديدًا؛ الآن تنفذ إليها أنواره فيراها عاريةً شوهاءَ كما هي، بلا ثوب شهوةٍ ولا زينة فتنةٍ، الآن هو عاجزٌ عن شكر ربه أن باعد بينه وبين أن يقال له عند موته: “لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ”، الآن بصره حديدٌ.

أرْبَى الله بلاءه، فصبر، فصار بأسماء ربه وصفاته عليمًا؛ الآن يدرك فيها قلبُه من بدائع الأسرار؛ ما لا يبلغ كثيرٌ من الحفاظ والنُّظار، لقد عاين من آثارها في نفسه وحسِّه ما عاين، وليس خبرٌ كعَيَانٍ.

بسط الله بلاءه، فصبر، فأصبح بنفسه خبيرًا بصيرًا، وتكشَّف له منها ما كان خافيًا، ولو عاش ضعف عمره (في العافية)؛ ما بلغ فقهه بها هذا المبلغ اللطيف، ومعرفة الناس فرعٌ على معرفة النفس؛ الآن أضحى ببلائه عظيم الشعور بهم، وافي الرحمة لهم، كريم الإشفاق عليهم، حكيم التأتِّي إليهم.

“والصبر ضياءٌ”؛ ما كان قول إمام الصبر -صلى الله عليه وسلم- إذًا إلا وحيًا يوحى؛ ضياءٌ ينير في صاحبه كل شيءٍ، وينير له كل شيءٍ، وهو مرٌّ إلا على من حلَّاه الله له، وكفى بالله جميلًا.

أضف تعليق