فائدةٌ عظيمةٌ؛ لقيام الكيانات والأمم

فائدةٌ عظيمةٌ؛ لقيام الكيانات والأمم والدول وبقائها جملتان من الأسباب؛ جملة أسباب دينية وجملة أسباب كونيةٍ، جملة الأسباب الدينية سالبةٌ وموجبةٌ؛ السالبة الكفُّ عن مساخط الله العقدية والعملية، والموجبة فعلُ مراضي الله العقدية والعملية، وجملة الأسباب الكونية نظريةٌ وعمليةٌ؛ النظرية الوعي والمعرفة والبحث والخبرة، والعملية حسن التدبير وإقامة العدل وموافقة السنن والأخلاق الحسنة.

من أخذ من الكيانات والأمم والدول بالجملتين جميعًا؛ كان أشدَّ قيامًا وأطول بقاءً، ومن فرَّط في جملة الأسباب الدينية وأخذ بجملة الأسباب الكونية؛ لم يظلمه الله ولم يهضمه، ووفَّى له -بسننه في الخلق التي لا تتبدل ولا تتحول- وأبقاه ما شاء، ومن تأمل هذا النظر السديد من العقل الفريد لسيدنا عمرو بن العاص -رضي الله عنه- فقِه هذه الحقيقة فقهًا تامًّا، ثم لينظر بنظره في العالمين ليزداد يقينًا.

كان المستورد القرشي عند عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- يومًا، فقال المستورد: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم -يقول: “تقوم الساعة والروم أكثر الناس”، فقال له عمرو: أبصر ما تقول، قال المستورد: أقول ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عمرو: لئن قلتَ ذلك؛ إن فيهم لخصالًا أربعًا؛ إنهم لأحلمُ الناس عند فتنةٍ، وأسرعُهم إفاقةً بعد مصيبةٍ، وأوشكُهم كرَّة بعد فرَّةٍ، وخيرُهم لمسكينٍ ويتيمٍ وضعيفٍ، وخامسةٌ حسنةٌ جميلةٌ؛ وأمنعُهم من ظلم الملوك. رواه مسلمٌ رحمه الله.

لقد تعجب عمرو بن العاص -وهو من هو في العالمين فطنةً وذكاءً- من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “تقوم الساعة والروم أكثر الناس”! إن الروم قومٌ كافرون، وإن حقيقة الكفر -إذا فكَّكته ربانيًّا وإنسانيًّا وماديًّا- من أعظم أسباب السقوط والانهيار؛ كيف يحفظ الله للروم هذا البقاء العظيم في الأرض؛ مع تفريطهم التام في جملة الأسباب الدينية بتحقُّقهم بالكفر رأسًا؟! ثم فكَّر عمرو وقدَّر، ودقَّق وتبصَّر، فوجد أنهم لا يبلغون ذلك إلا بأخذهم جملة أسباب القيام والبقاء الأخرى؛ جملة الأسباب الكونية.

“إنهم لأحلمُ الناس عند فتنةٍ”؛ اليوم تأخذ الفتنُ الدينية والسياسية والاقتصادية دولَ الكفر الكبرى، فيجدُّون في بحثها أفرادًا ومؤسساتٍ جدًّا عجبًا، وهذا لعَمَر الحق شاهدٌ لهذه الخصلة عظيمٌ.

“وأسرعُهم إفاقةً بعد مصيبةٍ، وأوشكُهم كرَّة بعد فرَّةٍ”؛ نظرةٌ عَجْلى إلى دولٍ خرجت من الحروب العالمية مدحورةً، فرتبت أوراقها ونظمت صفوفها؛ تغنيك عن كل بيانٍ لهاتين الخصلتين.

“وخيرُهم لمسكينٍ ويتيمٍ وضعيفٍ”؛ يكون هذا في بعض الكفار، أو في بعض أحوالهم، لبعض الغايات الإنسانية الدنيوية والمادية؛ لكنه متى كان لم يبخسهم الله فوائدَه وعوائدَه؛ “مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ”.

“وخامسةٌ حسنةٌ جميلةٌ؛ وأمنعُهم من ظلم الملوك”؛ تأملٌ يسيرٌ لثورات الشعوب الكافرة على أنواعٍ من الظلم الواقع عليهم؛ كافيك في شرح هذه الخصلة الشريفة وما يُجري الله بها، سنةً لا تتبدل، ثم انظر -نظر الله إليك- كيف أفردها عمرو بن العاص -رضي الله عنه- بالذكر، وكيف نعتها بالحسن والجمال؛ لتعجب من المسافة بين نظر سادة المسلمين الأولين، وبين نظر مخابيل الإسلاميين المتأخرين!

يا حبيبي؛ كن وسطًا بين طرفين في المسألة لتفقه هذه الفائدة؛ طرفٍ يهذي بأسخف نكتةٍ عصريةٍ؛ “وجدت إسلامًا بلا مسلمين”، وطرفٍ يجرِّد الكافرين من كل خصلةٍ طيبةٍ، وابتغ بينهما سبيلًا.

أضف تعليق