يعتب علي بعض إخواني -حفظ

يعتب علي بعض إخواني -حفظ الله أرواحهم في محابِّه والعافية- ضعف اعتنائي بتعليقاتهم البرَّة الودودة، تلك الأحرف الراضية الجوَّادة التي يحسنون بها إلي ويتعطفون بها علي؛ ولو علم الأحبة -حشد الله كل خيرٍ بأبوابهم- ما أخوهم الصغير فيه من ضيق الحال وكثرة الترحال؛ لأفسحوا لعذري في رحابة أفئدتهم موضعًا رفيقًا يليق بهم رُؤفاءَ رُحماءَ، وعند الرحمن ثواب الصفح والمغفرة.

لا أشكو الله خير الراحمين إلى أحدٍ من خلقه وهو ساتري وجابري، لك الحمد اللهم على ما أحطتني به من أنعُمك الباطنة والظاهرة؛ حتى لَأعتقد أني أوفى خلقك منك إحسانًا، وأستعينك على شكرك.

من 3 يوليو 2013 إلى منتصف 2014 الأصل مبيتي في بيتي، والاستثناء خروجي منه إذا خشيت ضررًا، من منتصف 2014 إلى منتصف 2015 الأصل مبيتي خارج بيتي، والاستثناء مبيتي فيه إذا عدمت مكانًا، ليلة السادس عشر من يونيو 2015 هجم البعداء البغضاء على بيتي لاعتقالي، فلما لم يجدوني قبضوا على أخوين من إخوتي بدلًا مني، ثم شاء سريع الفضل -تبارك لطفه- معافاتهم ونجاتهم من قريبٍ، ولم أرجع إلى بيتي وأهلي -بعد هذا- أربعة أشهرٍ وعشرًا، ثم انتقلت الأسرة بعد ضرر الفراق الشديد -من وجوهٍ كثيرةٍ- إلى مدينةٍ أخرى وجمعني بهم مولاي خير الواصلين، وبقيت بينهم إلى 11 مارس 2018 ما خلا يومين أو ثلاثةً كل أسبوعٍ، وهو تاريخ القبض على خالي الثاني بعد اعتقالهم خالي الكبير قبله بخمس سنواتٍ؛ الأستاذ الشيخ الكريم أبي إسلام أحمد عبد الله فرَّج الله عنه وثبَّته وسلَّمه، ثم قبضوا على زوج أختي الصغرى ونفرٍ من أصحابي ليدلوهم علي، وكنت قطعتهم مدةً قبل ذلك لئلا يُحمَّلوا من أمري ما لا يطيقون، وعذبهم المجرمون عذابًا شديدًا عذبهم الله في الدنيا والآخرة، وتركت بيتي وأهلي إلى هذه الساعة، مع أمراضٍ جسديةٍ قديمةٍ وحديثةٍ يعلمها الله نوعًا وكيفًا سبحانه وبحمده، لا قرار لي ليلتين اثنتين، وأنتقل بحقيبتي -فيها كل ما أملك- من موضعٍ إلى موضعٍ، ناعمًا بالحياة غير بائسٍ؛ الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، إياه أعبد وإياه أستعين.

لقد يحسب الأحبة أني أحسب نفسي في أهل البلاء، فالله المحيط بما أُبطن وأُظهر يعلم أني ما توهمت ذلك ساعةً من نهارٍ، بل أنا عبدٌ تغمرني آلاء الله عن يميني وعن شمالي ومن فوقي ومن تحتي ومن أمامي ومن خلفي، وإنما البلاء في الدنيا بلاء أسيرٍ في زنزانةٍ ضيقها الطغاة عليه؛ إن بسط فيها رجله ثنى رقبته، وإن بسط فيها رقبته ثنى رجله، والبلاء في الدين بلاء عبدٍ هان على سيده مولاه، فوكله إلى شهوته أو هواه، وذو الأدب الحميد مع الله لا يأسى على ما فاته من الدنيا؛ تارةً يقول: ربما أرهقني ما أشتهي من حطامها طغيانًا وكفرًا، وتارةً يقول: عسى ربي أن يبدلني خيرًا منه زكاةً وأقرب رُحمًا، بك اللهم أعوذ من شكواك إلى أحدٍ، إنما أبث -يا رحمن- بثًّا، ولقد أتانا أن رسولك -صليتَ عليه وسلمتَ- قال يومًا: “وارأساه”؛ أبوء لك بنعمتك وأبوء بذنبي، فاغفر لي يا إلهي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.

لست -بحمد الله والثناء عليه- أجنبيًّا عن هذا النوع من المقادير، قد استُشهد أبي -تقبله الله- منذ أربعين سنةً هجريةً وأنا طفلٌ في المهد؛ في حوادث ما قبل مقتل السادات، وقُتل عمي -رحمه الله وعفا عنه- بعد الثورة بشهرٍ، وقُبض عليَّ في عشر سنواتٍ عشر مراتٍ، مع من سُجن من أخوالي وأعمامي وسواهم من أرحامي؛ “نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَآءُ”؛ غفر الله ما ستر، وتجاوز عن خطايانا الكثيرة، ووقانا الفتن ظاهرةً وباطنةً، واستعملنا في مراضيه الحِسان، وثبتنا على صراطه المستقيم.

“عرض علي ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهبًا، فقلت: لا يا رب؛ ولكن أشبع يومًا وأجوع يومًا، فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك”؛ أحلف بربك العظيم سيدي نبيَّ الله الكريم؛ أني ما وعيت قولك الشريف هذا إلا بعد تصدُّق الله علي بهذا القضاء الجميل، لا أني جعت كما جعت أنت حبيبي عليك الصلاة والسلام، بل أنا الشبعان الريَّان الملآن من مواهب المنان، وما كان عطاء ربي -طرفة عينٍ فما دونها- محظورًا، لكن هو معنى تقلُّب الأيام بأقدار العزيز الحكيم، وأن ربي -جلَّ ثناؤه- “كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍٍ”، وأن الحياة الدنيا لا تساوي نقل الأقدام إليها؛ فكيف يُركض خلفها؟! وأن العبد يكفيه من متاعها النزر اليسير، وأن الغِنى ليس عن كثرة العرَض، لكنْ غِنى النفس.

يا أيها الذي آخيتهم على الإسلام والمرحمة والندى؛ ناشدتكم الله لا تعرضوا علي -بعد قراءتكم حرفي هذا- شيئًا من مالٍ ولا رأيًا في مسكنٍ ولا فكرةً عن سفرٍ، لكن ابسطوا لي في ثلاثٍ بسط الرحمن لكم بأطيبها وأوفاها؛ دعاءٍ بالمغفرة والهدى والثبات كدعائكم الله لأبنائكم، وعفوٍ نبيلٍ عني كلما أبطأت عنكم في تعليقٍ أو محادثةٍ، وأن تذكروني إذا فقدتموني -عياذًا بالعزيز- بـ”لا إله إلا الله” رحمًا بيننا.

سوى لذات الإيمان بالله والإحسان إلى خلقه؛ لا تصفو في الدنيا كلها لذةٌ واحدةٌ؛ لكل مغنمٍ مغرمٌ، المأكل والمشرب والمنكح والملبس والمسكن والمركب وسائر اللذائذ؛ ما صفا من وجهٍ كدِر من وجهٍ آخر، من عرف هذا لم يضق بالحياة ذرعًا، وطاب له التنعم فيها على قدرها؛ فلم يبخس أطايبها أشياءها، ولم يرجُ منها ما لم يكتبه الله لها، ومن جهله أو تجاهله فمسكينٌ؛ ألمه في لذته، وشِقوته في سعادته، وإنما كمال اللذات وتمام التمتع بها في دار السلام؛ تلك التي صان الله نعيمها عن الزوال، وسلَّمه من الكدر؛ وكيف يزول وداره دار الخلود؟! وكيف يكدِر وهو ترفيه الطيب الودود؟! اللهم ربنا اكتبنا في أهلها، واجمعنا في روضاتها، ما عندنا شيءٌ من أسبابها إلا رحمتك، وأننا مؤمنون بك وحدك لا شريك لك.

صفات الله وآياته وسننه؛ ثلاثٌ فتح الله لي في تأملها فتحًا أستوهبه الحمد عليها ما أبقاني، ومعادن الرجال وما كشف ربي لي منها -نفيسِها وخسيسِها- منةٌ من لدنه أخرى، وما كرَّه -علا وتعالى- إلي شيئًا من الدنيا إلا حبَّبني في مثله من الجنة، وكنت أحسب قبل هذا القدر أني بآلام أُولي البلايا وافيَ الشعور، فعلمت أني لم أزل بساحل هذا الخُلق لم أخض بحرَه بعد، وأن علي أن أُضاعف الإحساس بكل وجعٍ لكل أحدٍ من الخلق وصلني الله به، وإن كان بهيمةً عجماء، مع ما أظهر الله لي من نفسي قوةً وضعفًا وأطوارًا بينهما، وما أشهدنيه من معاني العبودية التي خلقني لأجلها وكنت عنها من الغافلين؛ بالله يا حمزة من أرضى منك عيشًا؟! إلا عبدًا حظي من الله علمًا وعملًا؛ اللهمَّ رضاك والجنة.

أضف تعليق