أمسينا وأمسى الملك لله، كل عرشٍ هالكٌ إلا ما استوى عليه الله.
إن الذين لا يفرِّقون بين النظر القدري والنظر الشرعي؛ قليلًا ما يَرشُدون.
كم من مرفوعٍ بالقدر مخفوضٍ بالشرع، يحبه المؤمنون لوجهٍ ويكرهونه من آخَر!
مسلمٌ دينُه في ربه: “إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي”؛ دَنْدَنَتُه في نفسه: (إن أملي يغلب يأسي).
من قال إنا نرجو من طاغوتٍ يذهب أو طاغوتٍ يأتي؛ رأفةً بالسادة الأسرى! لبئس الفهم البعيد.
أمَا والله لو وُكِلَ أمرُهم إلى أدنى الطواغيت شرًّا؛ لَأحرقهم لا يبالي؛ بما في قلوب البُغَضاء من عداوةٍ للإله الذي يعبدون، والرسول الذي يتْبَعون، والعقيدة التي يرتضون، والشريعة التي ينهَجون.
إنما الرجاء والطمع والرغبة والأمل والابتغاء والسؤال والدعاء والابتهال والضراعة والاستوهاب والاستمناح والاستفتاح والاستعطاء والاسترزاق والاسترئاف والاسترحام والاستنقاذ والاستنصار والتوسل والاستغاثة؛ إلى ربٍّ رؤوفٍ رحيمٍ سميعٍ عليمٍ عفوٍّ حليمٍ عزيزٍ حكيمٍ كبيرٍ كريمٍ مليكٍ عظيمٍ حيٍّ قيومٍ، لا نعرف غيره ربًّا ولا نبغي إلهًا سواه؛ أن يجبر كسور أسرانا التي لا محيط بأنواعها وآثارها إلا هو فيُنْجِي منهم من يشاء قادرًا مقتدرًا قديرًا؛ بل ما على حميدٍ مجيدٍ بعزيزٍ ولا بعيدٍ -وقد أَمَرنا إذا سألناه الجنة أن نسأله الفردوس الأعلى منها- أن يأتينا بهم جميعًا؛ لا يُعجز ربَّنا شيءٌ في الأرض ولا في السماء، الحَوْلُ حَوْلُه والقوة قوته، لا إله إلا هو الأحد الصمد الشهيد الحسيب.
بلى إن الطواغيت لا يرحمون المسلمين بنفوسهم الفرعونية النمرودية الإبليسية؛ لكن الله إذا فتح رحمةً لأسرانا قهر الطواغيت عليها فلا مُمْسك لها، قال المفسرون -رحمهم الله- في قول الحق -جلَّ ثناؤه- على لسان سيد السجناء يوسف عليه السلام: “إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ”؛ قالوا: “إذا أراد الله شيئًا هيأ له أسبابه”؛ هنالك يُيَسَّرُ العسير، ويُقَرَّبُ البعيد، ويُفْتَحُ المغلَّق، ويُجْمَعُ المفرَّق، ويكون ما لا يكون.
التمكين درجتان؛ درجةٌ دنيا ودرجةٌ قُصْوى؛ تمكين مِنَّةٍ وإزاحةٍ واختبارٍ هو الذي في الأعراف والقصص، وتمكين غلبةٍ وإحلالٍ واقتدارٍ هو الذي في الحج والنور، الأول يكون من الله مَنًّا على عباده المستضعفين -كلَّ انسدادٍ تامٍّ في شرايين الحياة- يبتليهم بسعته بعد ضيقهم لينظر كيف يعملون، والثاني جعل الله له جملتين من الأسباب عرَّفها أُولي العلم والنُّهى؛ جملة أسبابٍ كَسْبيةٍ بشريةٍ، وجملة أسبابٍ وَهْبيةٍ ربانيةٍ، وقد يستوفي المؤمنون الجملة الأولى بتوفيق الله ثم لا تصيبهم الثانية بحكمة الله فلا يُمكَّن لهم، وقد يستوفونها -أو يقاربون- فتصيبهم برحمة الله فيُمكَّن لهم، ولا يكون التمكين الأعلى حتى يكون الأدنى، وبين الدنيا وبين القُصْوى ما شاء الله من درجاتٍ في أزمانٍ على أحوالٍ بأسبابٍ شَتَّى.
قرأت اليومَ رسالةً خَطَّتها يمينُ أسيرٍ ترتعش، لولا أن أضره من حيث أردت نفعه لنشرتها، رسالةٌ تقطر بؤسًا؛ يقول المسكين: “احنا بقى عندنا أمل نخرج”؛ على الله غوثُك وأمثالك يا أخا ديني.
واغوثاه رباه؛ لا نسألك غدًا -بعد الذي سألناك بالأمس- إلا ما نسألك اليوم؛ أخرج أسرانا أجمعين.
اللهم من أبرم لعبادك المستضعفين المكائد، وحاك لهم الشدائد؛ فاحْبُكْ سلاسله، ودمِّر مفاصله، وأَصِبْ مقاتله، وأذقه ضِعْفَ الحياة بأسًا بأيدينا وتنكيلًا، وضِعْفَ الممات عذابَ جهنم وعذابَ الحريق.
رباه الولي الودود؛ إن بسطتَ بعافيةٍ فبرحمتك ولك الحمد، وإن قبضتَ ببلاءٍ فبحكمتك ولك الحمد.