عن منشور الحزن بالأمس الذي

عن منشور الحزن بالأمس الذي خانني فآلمَكم؛ كيف وأَحَبُّ أعمالي إلى الله ثم إليَّ أن أُبهجكم!

لست من الحزن في شيءٍ بحمد الله؛ بل أنا -بفضلٍ من الله بالغٍ وجَبرٍ من لدُنه سابغٍ- أسعدُ الناس، ولم يخطر لي على عقلٍ إذ كتبت هذا أن يفهم الأحبة منه ذلك، وإن أعان عليه ظاهر الكلام؛ فلتغفر قلوبُكم لقلبي مَساءتَها بغير قصدٍ منه؛ إنما أردت أني منذ ذاقت نفسي مواجع الحزن في صُروف الحياة مُفَرَّقًا غيرَ مجموعٍ؛ شقَّ عليَّ أن أجد بائسًا ثم لا أَجْهَد -بهُدًى من الله وعَونٍ- أن أتركه مسرورًا.

“ما رأيت أحدًا كان أكثر تبسُّمًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم”؛ قاله عبد الله بن الحارث رضي الله عنه، “ما رآني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا ضحك”؛ قاله جابرٌ رضي الله عنه، “وأما الحزن فلم يأمر الله به ولا رسوله؛ بل قد نهى عنه في مواضع، وإن تعلَّق أمر الدين به”؛ قالها ابن تيمية رحمه الله، “ولم يأت الحزن في القرآن إلا منهيًّا عنه أو منفيًّا”؛ قالها ابن القيم رحمه الله.

اللهم إنك تعلم أني لم أَعُدَّ نفسي في أهل البلاء قطُّ؛ وإن عَدَّني فيهم عبادُك جَرْيًا على صُوَر الأَقضِية وظواهر المقادير، وأني إذا لبست لخلقك ثوبًا مُرَقَّعًا أستجدي به رثاءهم لحالي وإشفاقهم عليَّ فإني عندك من الكَفورين الكذابين، اللهم إني أنْعَمُ خلقك بإحسانك في باطنٍ وظاهرٍ، وإنه لا طاقة لي ببعض شُكرانك على بعض أنْعُمِك إلا أن تُعين فأفعل، اللهم فإني أستغفرك من حرفي إبهامًا وإيهامًا.

ذلك؛ وليس كل حزنٍ يُصاب به الإنسان اكتئابًا مُخِّيًّا يستلزم الدواء الكيميائي، وإن كان كذلك بالمعنى اللغوي العام؛ بل من الحزن ما هو مشروعٌ (مِثلُ الذي على جِراحات الإسلام ونوائب أهله)، وهو حَسنٌ ما مَازَ صاحبُه نوعَه، وعرَف ما عليه فيه تصوُّرًا وعملًا، وسعى في ذلك بمُستطاعه؛ فأما ما طغى منه فأفسد المِزاج وأقعد عن العمل؛ فشرٌّ غالبٌ يُحِيلُ المشروع ممنوعًا، وتفسِّره أمورٌ نفسيةٌ.

لم يخلق الله حزنًا في فؤادٍ أشرف من حزن المرسلين؛ فإنه حزنٌ لم يكن لهم فيه حظٌّ؛ بل على تَفَلُّتِ الناس من بين أيديهم يقتحمون في النار، وأوفى أحزان الأنبياء شرفًا حزن سيدهم صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لم يأذن الله له بتجاوز حدِّه؛ لكي لا تفنى قوة قلبه فيَحصُل بفنائها من الشر أعظمُ مما أحزنه، ثم أدَّبنا رسول الله بما أدَّبه ربه به، فعلَّمنا التعوذ بالله من الحزن آناء الليل وأطراف النهار.

ومنه الطبيعي العارض للناس أجمعين -من أبي بكرٍ رضي الله عنه، إلى أبي لهبٍ لعنه الله- بحُصول المكروهات الجَوَّانية والبَرَّانية، كلٌّ على قدْر ما له من القُوى الباطنة والظاهرة؛ فذلك الذي يُدفَع بجُملة أسبابٍ ربانيةٍ وبشريةٍ وماديةٍ، تَركيةٍ وفعليةٍ؛ كاجتناب كذا وكذا من دواعيه البشرية والمادية، والإيمان بالله وحُسن التعبد له، وفِقه النفس والناس والدنيا والآخرة، والمُزاحَمَة بالطيبات والمباحات.

ومنه الحزن المتطور من الدرجة النفسية السائلة إلى الدرجة المُخِّية الصُّلبة؛ فذلك “الاكتئاب الدِّماغي” الذي تُسبِّبه مؤثراتٌ نفسيةٌ وفسيولوجيةٌ شتَّى، ثم يعود هو على صاحبه بعوائدَ نفسيةٍ وفسيولوجيةٍ شتَّى، ولا بد فيه من الرجوع إلى طبيبٍ حاذقٍ خبيرٍ، (غير علمانيٍّ ولا كافرٍ بالله أصلًا)، وقد يعالَج معرفيًّا أو سُلوكيًّا أو كيميائيًّا أو بغير ذلك؛ كلُّ حزنٍ بحُسبانٍ، وقد جعل الله لكل حزنٍ قدْرًا.

ليس قبلَ كل حزنٍ شيطانٌ؛ لكن بعدَ كل حزنٍ ألفُ شيطانٍ، ينفخون فيه بمَارجٍ من نارٍ؛ حتى يملأ لهيبُه جوانبَ النفس جميعًا، فلا يذر طاقةً بها إلا أحرقها، ولقد رأيت بعيني التي في وجهي أقوامًا زينت لهم الشياطين صُوَر الأحزان وكانوا منها أحرارًا؛ فما زالوا يتكلَّفونها حتى باتوا في حقائقها مكبَّلين أُسارى، خَرَبوا قلوبهم بقلوبهم؛ أولئك الهَلْكى نفوسُهم المَرْضى جسومُهم وأولئك البطَّالون.

اللهم أعذنا من الحزن كله إلا نوعًا في مرضاتك؛ حتى تُذهِب عنا الأحزان كلها في دار السلام.

أضف تعليق