يقولون: أسلم الأسرى نفرٌ من المرتدين، فرُدُّوا إلى السجن.
قل: هو كربٌ عظيمٌ؛ لكنه -وقد وقع- قدرٌ من أقدار الرب الحكيم.
هو الله أولى بهم من أنفسهم ومن المؤمنين، وها نحن نستجلي حكمته.
“الدنيا سجن المؤمن”؛ قالها رسول الله صلى الله وسلم وبارك عليه؛ فهل أنتم لما قاله معتقدون! فهذه الدنيا وهؤلاء المؤمنون؛ فما بقي إلا ترقُّب ما بينهما. إن الذين يَحيون بالإيمان حياةً حقيقيةً هم الذين لا يرون الدنيا كلها إلا سجنًا كبيرًا، مهما بسط الله لهم فيها من ألوان السعة وأفسح لهم في مظاهر العافية، لا ينفكُّ وصف السجن عنها في قلوبهم إلا بقدْر نقصان الإيمان فيها، فإذا كان ذلك كذلك؛ فما زاد الله أسرانا إلا أن أُخرجوا من زنزانةٍ يقال لها “البيوت” إلى زنزانةٍ يقال لها “السجون” إلى زنزانةٍ يقال لها “الطُّرُق” ثم رُدُّوا إلى زنزانة “السجون”، وهو الأعلم أين يكونون في زنازين هذه الدار النَّكِدة بعد ذلك! سجنٌ هي للمؤمن إذا قِيسَت بجنة الآخرة؛ كما أنها جنة الكافر إذا قِيسَت بسجن الآخرة.
وأيضًا؛ فما خلق الله هؤلاء الأسرى إلا لعبادته، العبادة حكمة وجودهم في هذه الدار لا شريك لها من الحِكَم، وعبادتهم اللهَ ديمومة ذُلِّ قلوبهم واستمرار انقياد جوارحهم له ما بقوا، وقد مضت سنة الإله في العباد أنهم لا يعبدونه في العافية عبادتهم في البلاء، عبادتهم في البلاء أصدق وأخلص وأيسر وأشد وأكثر، وعبادتهم في العافية أكذب وأشرك وأعسر وأوهن وأقل، إلا قليلًا منهم، فإن عبدًا يعينه مولاه على ما خلقه لأجله بابتلاءٍ يحفظ على قلبه ذلَّه وعلى جوارحه انقيادَها؛ لعبدٌ مَحْظِيٌّ لا أحظى منه، ثم هو في البلاء أولى عباده بلطفه وقربه وإيناسه ورحمته، وعدًا من الله مأتيًّا، حتى رجا البلاءَ نفرٌ من أصحاب محمدٍ -صلى عليه ورضي عنهم- فنهاهم عن ذلك، وجعل سؤال الله العافية فرضًا.
وأيضًا؛ هل أتاكم أن الله في عليائه فوق عرشه وسمائه يفرح! عبارةٌ تتكبَّر عن العقول الصغيرة وتتسع عن ضِيقها؛ لكنها عبارة أولى الخلق بالحق صلى عليه وسلم، صح الحديث فلسنا بعده من الممترين، لا نعطِّل كالمعطلة ولا نجسِّم كالمجسمة. فإن نفرًا -أيها الناس- من أشباه الملائكة والمرسلين -ولا شبيه لهم- اصطفاهم سيدُهم الأعظم واجتباهم، فكانوا لذاته المقدَّسة ونفسه المسبَّحة من المُفَرِّحين؛ هم أولئك الأسرى، فرَّحوا الله بما فعلوه برحمته وقدرته وسائر ما تجلَّى به عليهم من صفات جماله ونعوت جلاله، ففرح بفرح الله رسولُه في قبره المكرَّم، ودينُه بين جراحاته الكثيرة، والملائكةُ في السماء، والمؤمنون في الأرض؛ فما عليهم أن يسجنهم أبناء الخنازير تارةً أخرى! والحُرُّ ممتحَنٌ بأولاد الزنا.
وأيضًا؛ فهاهي لذةٌ أخرى من لذَّات هذه الدنيا تتكدَّر علينا من بعد صفائها، ونصبح من بعد ليلٍ قصيرٍ بِتناه في ابتهاجٍ واغتباطٍ حزانى مكروبين؛ لِيُزَهِّدنا الله في هذه الدار الكاذبة الكاذبِ كل ما فيها، إلا الإيمان به وما والاه؛ فذاك الصدق وحده، ولِيُذَكِّرنا دار السلام عنده، تلك الدار التي سلمت بتسليم الله إياها فسلم كل ما فيها، لا أُفُول لسرورٍ ولا زوال لحُبورٍ، لا تعَكُّر لنعيمٍ ولا تكَدُّر للذة؛ بَيْدَ أنه إذا انْمَحَت فرحتنا بإنقاذ الله هؤلاء السادة؛ فإن ما كتبه الله لهم بنفسه في تاريخ دينه من موطئٍ وطؤوه أغاظ أكفر الكافرين؛ لا يُمحى أبدًا، ومن يمحو ما كتب الله! وإذا كان هؤلاء جواهرَ الناس؛ فما حقُّ الجواهر إلا أن تصان، والله يصون من شاء أين يشاء، وقد اختار لصَونهم هذا المحلَّ، فله الحمد حكيمًا وعليه الثناء.
وأيضًا؛ فإن الحرية حرية الأنفس والقلوب، ورُبَّ جسدٍ حرٍّ في صورته أسيرٌ في حقيقته، وكم إنسانٍ يراه الناس غاديًا في العافية ورائحًا فلا يشكُّون في حريته، وهو المتيقن وحده رَهْنَه وحبسَه! ومن نظر إلى المبتلين بالعشق قد ذلُّوا به وهانوا، وإلى القابعين في الفواحش عجزةً عن مفارقتها، وإلى الراكضين في الدنيا ركض الوحوش في البرِّية، وإلى عبيد الأغنياء ومَواليهم اللاهثين في مراضيهم؛ عرف ما الحرية وما السَّجن، ولم يزل أيسر شيءٍ على كل جبانٍ رِعديدٍ أن يستكين لعدوه إن هو عاداه؛ فأما هؤلاء السادة فأعز الله نفوسهم فلم تستكن، وجعل جنته في صدورهم فلم يبالوا بأغلالٍ وأنكالٍ. رَبِّ إني لأغار على عملهم أن يحبط بشيءٍ؛ فأسألك قبوله، وأن تثبتهم إلى لقائك فلا يُفتنون.
وأيضًا؛ فقد جلَّى الله لعباده بالقدَر حقيقةً كلَّفهم تبصُّرَها بالشرع فلم يفعلوا إلا قليلًا منهم؛ أن كفر الردة أغلظ من الكفر الأصلي من وجوهٍ بشريةٍ معقولةٍ وربانيةٍ منقولةٍ، وأن أشباه هؤلاء المرتدين الذين أسلموا أحبابنا شرٌّ نفوسًا وألعن طباعًا من الكفار الأصليين، ومن قايَس بين طواغيت العرب وبين طواغيت العجم في عداوة المسلمين؛ شهد الفروق. ألا فالعنهم الله لعنًا لا يغادرهم حتى يَقَرُّوا بقعر جهنم فتقرَّ عينُها بهم سُكَّانًا خُلِقت لهم وخُلِقوا لها، واضرب قلوبهم في الحياة الدنيا بصنوفٍ من الذل والخوف لقاءَ ما قصدوا بالخيانة من العزة والأمان، وسلِّط على أجسادهم أمراضًا لم تخلقها بعدُ لا يموت أحدهم بها ولا يحيا، ثم أضرِم لهم حُفَر قبورهم نارًا قبل حُلولهم فيها، ومن بات عنهم راضيًا.
هذه بعض حِكَم الله المستجلاة في عُجالةٍ، وإنها لأعظم من أن تُعدَّ أو تُحصى.