ألَا مشمِّرٌ -بعد القراءة- لجبر

ألَا مشمِّرٌ -بعد القراءة- لجبر المنكسرين جبرًا يُعجب الله!

الجابرون يجبرهم جبَّار العالمين في الدنيا والآخرة والبرازخ بينهما؛ جبرًا عجبًا.

وكلُّ كسرٍ فإنَّ الدينَ يجبرهُ ** وما لكسرِ قناةِ الدينِ جُبرانُ

أَولى بالجبر فأَولى، ثم أَولى بالجبر فأَولى؛ أحبابُنا الذين كُسر من طاعاتهم ما كُسر بعد ما آواهم الله إلى ظلالها أحيانًا من الدهر مجبورين، ثم غلبتهم أنفسهم والدنيا والشياطين، فجَرَت عليهم سُنة الله التي لا تتبدل فصُرِفوا؛ أعيدوهم إلى جادَّة طريق الله بما تستطيعون وما لا تستطيعون؛ أتُسارع أسباب النار إليهم وتُبطؤون عنهم يا أسباب جِنان الله! وأيُّنا ضامنٌ ثباتَه! فقدِّموا لأقدامكم في الطريق بِرَدِّ هؤلاء إليه؛ يُثَبِّت الله أقدامكم، والربُّ برٌّ شكورٌ؛ أفتكونون أبرَّ بهم من برِّ الله بكم حين يراكم عليهم حِراصًا!

إن جزاء الله على الحسنات من أجناسها، ولا يزال العبد يتخلَّق بالصفة الحميدة حتى يُعْرَف بها في الملأ الأعلى؛ طوبى لعبدٍ وَسْمُه عند الله (جبَّارُ كسورٍ).

أيها المنكسر فؤادُه؛ لا يضرُّك في الأرض كاسرُه؛ ما دام في السماء جابرُه.

هو الجبَّار -سبحانه- على الحق والحقيقة، جبرُه الأكملُ الأتمُّ، الأوسعُ الأعمُّ؛ فمن تخلَّق بالجبر فقد قدَّس نفسه بهذه النعت الأجلِّ من نعوت جمال ربِّه، وقد رقَّى نفسه -بحولٍ منه وقوةٍ- إلى قُبَّة الكرامات الربانية: (السعيُ قدْر الطاقة في التخلُّق بصفةٍ من صفات الربِّ التي شَرع لعباده التحلِّي بها والتجلِّي).

قال الإمام ابن القيم في ذلك المقام القيم: “من تعلَّق بصفةٍ من صفات الربِّ تعالى؛ أدخلته تلك الصفة عليه، وأوصلته إليه”؛ رضي الله عن أبي محمدٍ.

أفيَجبر الله خلقه مستغنيًا عنهم؛ ثم لا تجبرهم أنت مفتقرًا إلى جبره!

انظر كيف جبر الله مساكين عباده؛ بأن عطف حقهم على حقه، فقال: “إَنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ”! ذلك الأشقى الذي يصلى النار الكبرى؛ ليس لكفره بالله فحسْب؛ بل لقعوده عن حق المسكين أيضًا؛ أيُّ نفسٍ تشهد جلال هذا الجبر للمسكين ثم تطيق له كسرًا!

ثم انظر كيف جبر الله كسر ابنِ أم مكتومٍ؛ بمعاتبة أحب حبيبٍ إليه وأكرمِهم لديه -صلى الله عليه- في حقه؛ فجعل أوَّل العتاب: “عَبَسَ”، وآخره: “تَلَهَّى”!

ثم تأمَّل كيف جبر الله حاضِري قسمة الميراث الذين هم من غير أهله؛ بأن أمر بإعطائهم ما ليس حقًّا واجبًا لهم، فقال: “وَإِذَاْ حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا”! قومٌ حضروا قسمة الميراث ليسوا من ذَوِيه؛ لكنهم حضروا؛ فلْيُجبَروا، ليُجبَروا بشيءٍ منه وإن كان يسيرًا، فإن لم يكن ثَمَّ شيءٌ يأخذونه؛ ففي قول المعروف لهم جبرٌ، اجبروهم بلطيف قولٍ به يَرجعون؛ أن تُكسر نفوسهم وأنتم لا تشعرون.

ثم تدبر كيف جبر الله محاويج عباده الذين لا يجد رسول الله -عليه الصلاة والسلام- ما يعطيهم من المال؛ بأن أمره بميسور قوله لهم، فقال: “وَآتِ ذَاْ الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ”، ثم قال: “وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَآءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلًا مَّيْسُورًا”! آيةٌ تقول: محمدٌ يا سيد الأجواد؛ إن قُدِر عليك ما به يُجاد؛ فلا تحرمهم جابر قولك إنه حقُّ المستفاد.

إلَّا تكنْ وَرِقٌ يومًا أجودُ بها ** للسائلينَ فإني ليِّنُ العُودِ

لا يَعدمُ السائلونَ الخيرَ منْ خُلقي ** إما نوالي وإما حُسنُ مردودي

“إنكم لن تسَعوا الناس بأموالكم؛ فسَعوهم بأخلاقكم”؛ قالها عليٌّ رضي الله عنه، وكأن حَليل (الزهراء) قَبَس هذه الدرة المَجْلُوَّة، من جَليل آيات (الإسراء) المَتْلُوَّة! وكأن أبا الطيب أخذ من هذا القول لسيدنا عليٍّ قولَه:

لا خيلَ عندكَ تُهديها ولا مالُ ** فليُسعدِ النطقُ إنْ لمْ تُسعدِ الحالُ

ثم تفكَّر كيف جبر الله المطلَّقات؛ بأن جعل لهن حقًّا على المطلِّقين إن كانوا يعدُّون أنفسهم في المتقين، فقال: “وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ”! لما قضى الله فيهن بالطلاق قدَرًا؛ قضى لهن بالمتعة على المطلِّقين شرعًا، هذا بلُطفه وذاك بعطفه، كأنما يقول للرجال: ألستم قد فارقتموهن؛ فكُسر بالبَيْنِ منهن! فاجبروهن ناهِجِين دِينَكم، “وَلَا تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ”.

ربٌّ هذه عجائب جبره في خلقه؛ تُساء به في شدائد أقداره الظنون!

أستغفرك اللهم لي ولكل مسلمٍ رَقَّ يقينُه في بَلِيَّةٍ، فلم يظن برحمتك ما يليق بها من السُّبْحَان، وأستهديك قبل حلول النوازل؛ أن نحار فيها وأنت هادينا.

إنَّ كسرَ اللهِِ جبرٌ إنَّ إنْ ** سبِّحِ الجبَّارَ عبدًا واستكِنْ

أما جبره صلى الله عليه وسلم؛ فحسبُك فيه هذا النبأ الفائض تَحْنانُه:

تَبِعَته ماشيًا -ذاتَ يومٍ- ابنةُ عمه حمزة -رضي الله عنه- وهي تنادي: يا عم يا عم، فتناولها عليٌّ -رضي الله عنه- فأخذ بيدها، وقال لفاطمة عليها السلام: دونكِ ابنةَ عمكِ، فحملتْها، فاختصم فيها عليٌّ وزيدٌ وجعفر؛ قال عليٌّ: أنا أخذتها وهي بنت عمي، وقال جعفر: ابنة عمي وخالتها تحتي، وقال زيدٌ: ابنة أخي، فقضى بها النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- لخالتها زوجِ جعفر، وقال: “الخالة بمنزلة الأم”، ثم قال لعليٍّ: “أنت مني وأنا منك”، وقال لجعفر: “أشبهت خَلقي وخُلقي”، وقال لزيدٍ: “أنت أخونا ومولانا”؛ عَلم سيدنا -صلَّى الله عليه وسلَّم- كيف حال فؤادَي صاحبَيه عليٍّ وزيدٍ -رضي الله عنهما- بعد الذي فاتهما من الخير النفيس؛ فجبرهما بهاتين الأُكْرومتين الخالدتين وإن زال نفسُ الخلود.

منْ شمَّ عَرْفًا لأخلاقِ النبيِّ يَقُلْ ** لا المسكُ مسكٌ ولا الكافورُ كافورُ

إن بشرًا ليس كمِثله بشرٌ هو رسول الله، يجبر جِذْع شجرةٍ باحتضانه؛ لا يُستعجب منه جبر ذوي الأرواح ولا يُستغرب، صح أنه -صلَّى الله عليه وسلَّم- كان يخطب إلى جِذْعٍ، فلما اتخذ المنبر؛ حنَّ الجِذْع، فأتاه فاحتضنه فسكن، ثم قال: “لو لم أحتضنه؛ لحنَّ إلى يوم القيامة”؛ أمسِك بقلبك أن يطير مُوَلَّهًا.

ذلك، وإن أولى الناس ببالغ جبركم المسلمون، وأحْراهم بأوفاه الأقربون، وأجْدَرُهم بأَدْوَمِه أولو الأرحام، وأخْلَقُهم بأَخْلَصِه الآباء، قال سيد جابري الورى: “أمَّك وأباك، وأختَك وأخاك، وأدناك أدناك”؛ بالله هل في وصايا العالمين وصيةٌ مثلُها! صلَّى الله على صاحبها عددَ أنفاس مجبوريه وسلَّم.

فأما الذين كانت عادتهم جبر عثرات الناس، ثم صدَعتهم نوائب الدنيا حتى باتوا في بيوتهم معاويزَ إلى الجبر؛ فضاعِفوا جبرهم؛ اللهَ اللهَ أنَّى يَعثرون!

“صاحب المعروف لا يقع، فإن وقع وجد متكأً”؛ أفلح من كان لأولئك متكأً.

اللهم جبَّارَ البرايا؛ إن أوسع جبرك إيانا ما تهدينا إليه وتعيننا عليه من جبر كسور خلقك؛ فمتِّعنا به ما أحييتنا، وأبْقِه بعد مماتنا جاريًا تظل عوائده نفَّاعةً في القبور ويوم نَفِد عليك منكسرين. وقَّع بالضَّراعة إليك اللهم عبادٌ كَسَارَى.

أضف تعليق