الله السَّتِير والسِّتِّير؛ كِلا ضَبْطَي الاسم الإلهي صحيحٌ.
لو أن أحدنا زنى عِيَاذًا بالله ولِيَاذًا، ثم جاء هنا -جُنُبًا من الزنا- يحضُّ الناس على العِفَّة؛ ما شعر به أحدٌ.
ولو أن أحدنا سرق عِيَاذًا بالله ولِيَاذًا، ثم جاء هنا -وما سرقه في ثوبه- يحضُّ الناس على الأمانة؛ ما شعر به أحدٌ.
ولو أن أحدنا تولَّى من الزحف عِيَاذًا بالله ولِيَاذًا، ثم جاء هنا -وقلبه من رُعبه يرجُف- يحضُّ الناس على الثبات والإقدام؛ ما شعر به أحدٌ.
ولو أن أحدنا قتل نفسًا معصومةً عِيَاذًا بالله ولِيَاذًا، ثم جاء هنا -ويداه تقطران دمًا- يحضُّ الناس على المرحمة؛ ما شعر به أحدٌ.
ولو أن أحدنا كان أسيرًا لشهوةٍ عِيَاذًا بالله ولِيَاذًا، ثما جاء هنا -مرهونًا في أغلالها- يحضُّ الناس على الحرية؛ ما شعر به أحدٌ.
ولو أن أحدنا عقَّ والدَيه عِيَاذًا بالله ولِيَاذًا، ثم جاء هنا -ولم يتمضمض من أُفٍّ لكما- يحضُّ الناس على بر الوالدين؛ ما شعر به أحدٌ.
ولو أن أحدنا أشرك بالله الواحد الأحد عِيَاذًا به ولِيَاذًا، ثم جاء هنا -بعظيم إشراكه- يحضُّ الناس على خالص التوحيد؛ ما شعر به أحدٌ.
يرضى الله عن أبي العتاهية قائلًا:
أحسنَ اللهُ بنا ** أنَّ الخطايا لا تفوحْ
فإذا المستورُ فينا ** بينَ ثوبَيْهِ فضُوحْ
ومما حفظته من العلَّامة عبد الباسط هاشم -رحمه الله- عن شاعرٍ أندلسيٍّ:
إذا أُخبرتَ عنْ رجلٍ بريءٍ ** منَ الآفاتِ ظاهرُهُ صحيحُ
فسَلْهُمْ عنهُ هلْ هوَ آدميٌّ ** فإنْ قالوا نعمْ فالقولُ ريحُ
ولكنْ بعضُنا أهلُ استتارٍ ** وعندَ اللهِ أجمعُنا جريحُ
ومنْ إنعامِ خالقِنا علينا ** بأنَّ ذنوبَنا ليستْ تفوحُ
فلوْ فاحتْ لأصبحنا هروبًا ** فُرادَى بالفَلا ما نستريحُ
وضاقَ بكلِّ منتحلٍ صلاحًا ** لِنَتْنِ ذنوبهِ البلدُ الفسيحُ
ومما وعيته طفلًا من شعر القحطاني رحمه الله:
أنتَ الذي أدنيتني وحَبَوْتني ** وهديتني منْ حيرةِ الخذلانِ
وزرعتَ لي بينَ القلوبِ محبةً ** والعطفَ منكَ برحمةٍ وحنانِ
ونشرتَ لي في العالمينَ محاسنًا ** وسترتَ عنْ أبصارهمْ عصياني
وجعلتَ ذِكري في البرِيَّةِ شائعًا ** حتى جعلتَ جميعَهمْ إخواني
واللهِ لوْ علموا قبيحَ سريرتي ** لَأَبَى السلامَ عليَّ منْ يلقاني
ولأعرضوا عني وملُّوا صحبتي ** ولَبُؤْتُ بعدَ قرابةٍ بهوانِ
لكنْ سترتَ معايبي ومثالبي ** وحلُمتَ عنْ سقطي وعنْ طغياني
فلكَ المحامدُ والمدائحُ كلُّها ** بخواطري وجوارحي ولساني
قال سفيان بن عيينة رضي الله عنه: “لولا ستر الله عزَّ وجلَّ؛ ما جالسَنا أحدٌ”، وكان محمد بن واسعٍ -رضي الله عنه- يقول: “لو كان للذنوب رائحةٌ؛ ما جالسني منكم أحدٌ”، وقال عمر بن عبد العزيز لخالد بن صفوانٍ رضي الله عنهما: عِظني وأوجِز، فقال خالدٌ: “يا أمير المؤمنين؛ إن أقوامًا غرَّهم ستر الله عزَّ وجلَّ، وفتنهم حُسن الثناء؛ فلا يغلبن جهلُ غيرك بك عِلْمَك بنفسك، أعاذنا الله وإياك أن نكون بالستر مغرورين، وبثناء الناس مسرورين، وعمَّا افترض الله متخلِّفين مقصِّرين، وإلى الأهواء مائلين”، فبكى عمر، وهذا حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح ابنُ القيم -رضي الله عنه- يقول: “فكَم من مستدرَجٍ بالنعم وهو لا يشعر، مفتونٍ بثناء الجُهَّال عليه، مغرورٍ بقضاء الله حوائجَه وستره عليه! وأكثر الخلق عندهم أن هذه الثلاثة علامة السعادة والنجاح؛ ذلك مبلغهم من العلم”.
قال حذيفة العرجي بارك الله به:
يا منْ بسَتركَ خالَني منْ مرَّ بي ** أنْ ليسَ لي في العالمينَ قبيحةْ
لولا جميلُ السَّترِ منكَ لنالني ** في كلِّ شبرٍ لعنةٌ وفضيحةْ
يا هذا؛ ثناء الناس عليك ظنٌّ، وعلمك بنفسك يقينٌ، واليقين لا يزول بالظن.
ما أحلى ستر الله وأجملَه! ما أتمَّه وأكملَه! ما أطولَه وأرسلَه! ما أعمَّه وأشملَه!
ربَّاه سترًا جميلًا لا تكشفه الرياح، وظِلًّا ظليلًا لا تخرقه الرماح، لا إله إلا أنت.
ربَّاه ما كنا لسترك بُرْهَةً مستحقين؛ لكنك السِّتِّير كثيرُ الستر عظيمُه، ربَّنا فلا ترفع سترك فيما بقي من الدنيا وفي الآخرة عمَّن عوَّدتهم حلاوته، وحَقِّ عدلك لو عاملتنا به؛ إن الفضح بعد الستر مرٌّ مذاقتُه كطعم العلقم، وإنا لا نطيق.