وأرجو التداني منكِ يا ابنةَ مالكٍ ** ودونَ التداني نارُ حربٍ تضرَّمُ
راجعتِ “قاموس الحب والحرب” -حبيبتي- كما ناشدتكِ مرارًا؟ أقدُر حزنكِ لرحيلي؛ لكن لا بد.
المدُّ والجزْر، الظَّفر والهزيمة، نُدوب الهوى وجراحات القتال، دقات القلب ودقات طبول المعارك، غرام الفؤاد وغمرات الجهاد، الخوف والأمان، البَوْحُ والكتمان، الهياج والسكون، مشارع الأشواق ومصارع العشاق، الهيمنة وطرائقها؛ كلها في “معجم لسان الفطرة” سواءٌ.
العاشق تتدفق دماؤه في عروقه، والشهيد تنفجر دماؤه منها، فإذا قضى الله موت حبيبكِ شهيدًا فقد جُعل حظُّ دمي -على هذه الأرض- الفوران، لا ضير؛ حدثني أبي أن سكَّان الفردوس الأعلى إذا زاروا ربهم -جلَّ جلاله- فرأوا وجهه الكريم؛ رجعوا إلى منازلهم وقد سكن فيهم كل شيءٍ.
دجَّالون هم حبيبتي؛ أولئك الذي يعزلون الحب -في ثرثرتهم- عن الحرب؛ يصونونه عن قبائحها زعموا، هل الحرب -في شِرعةٍ مقدَّسةٍ- إلا سيف السماء يحامي عن بقايا الجمال في الأرض؟
في فتيةٍ منْ كُماةِ الدِّينِ ما تركَتْ ** للرَّعدِ كَرَّاتُهمْ صوتًا ولا صِيتا
قومٌ إذا قوبلوا كانوا ملائكةً ** حُسْنًا وإنْ قوتلوا كانوا عفاريتا
ويحكِ! تغارين من جاريةٍ! لم تكن “صوفيا” التي رأيتِ صورتها معي إلا جاريةً، أهدانيها صديقٌ بعد غزوةٍ مباركةٍ في قازان من أرض الرُّوس، ومثله لا تُردُّ هبتُه؛ كما أن مثلكِ لا ينازَع موقعُه، أنتِ أنتِ، لعل حبيبكِ إذا انتصر -فلم يقضِ نحْبَه- عاد بها إليكِ فكانت إحدى وصيفاتكِ.
“الفلفل الأسود علاجٌ لكثافة شعركِ سيدتي”؛ قرأتها على علبةٍ فوق رفِّ مرآتكِ ذات مساءٍ قريبٍ، من قال أني أريد شعركِ مرسلًا؟ أحبه كثيفًا؛ إنه -في فلسفة حبيبكِ- يشير إلى طبيعة هذه الحياة، ثم إني غير واثقٍ به دواءً لهذا؛ بَيْدَ أني على يقينٍ من دوره في صناعة بعض المتفجرات اليدوية.
لم أقرأ قصائد توماس هاردي الثلاثة في الحرب، ولا أنوي الإصغاء إلى قصيدة كريستينا روستي “الحب لا يعرف الألغام”؛ ذلك بأني مكذِّبٌ فؤاديهما جميعًا؛ لكني أحفظ “أرملة الشهيد تهدهد طفلها”؛ حين يهدر في ثناياها -بكل كآبةٍ خلَّاقةٍ- صدُوق الحرية هاشم الرفاعي، يقول -تقبله الله شهيدًا-:
فإذا عرفتَ جريمةَ الجاني وما اقترفتْ يداهْ
فانثرْ على قبري وقبرِ أبيكَ شيئًا منْ دماهْ
لم تذبل وردةٌ أهديتنيها ذات تنزهٍ في حديقةٍ فقيرةٍ إبَّان كنت مطارَدًا؛ فاليوم أعدُكِ بمروحيَّةٍ تتنزهين بها في سماء سيناء، ثم أخرى أغلى وأحلى وأعلى؛ شجرة زيتونٍ في طور سينين؛ لا لجمال الزيتون في سفح الجبل؛ لكنْ لتجلِّي ذي الجلال يومًا عليه؛ كما وعد رسولُ الله سراقةَ سِوارَيْ كسرى.
يا حبيبتي؛ عزيزٌ على نفسي عتابكِ يوم الرحيل ضحىً؛ “لم تصلكَ فتوى الشيخ بعدُ أن تخرج إلى الجهاد؛ فلم تصرُّ عليه؟”؛ لقد سبقتْ يومَها إلى قلب حبيبكِ فتوى الله؛ “إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ”، وقد وعيت عن أمي صغيرًا: يا بني؛ إذا اضطربت الفتاوى لغلبة الأهواء، وضللتَ عن الحق في غيابات الآراء؛ فكفى بالله مفتيًا؛ “يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ”.
“فضل الجهاد لمن سكن مصر من بائسي العباد”؛ عنوان كُتيِّبٍ تركت أوراقه مبعثرةً -على مكتبي- قبل السفر بثلاثٍ، لملميها -حبيبتي- وانشريه -بحثًا مُثَوِّرًا- على الشبكة في كل موقعٍ تبلغين؛ عسى أن يكونوا في ميزانكِ ثقلًا أولئك الذين سيقرءون فيفعلون، لا أحضُّ -في حروفه- بؤساء “المحروسة” على الجهاد لنفسه؛ بل لضرورته لهم مَخرجًا من الموت إلى الحياة.
تقولين: نسيتَني! ليس في هذه -بعد مألوف حبكِ العنيف- شيءٌ حسنٌ؛ إلا ما هان بها من ألم شظيةٍ أصابت عضُدي البارحة، أنساكِ! أنا -يا حبيبة- لولا تمرين قدميَّ على أن تخطئا طريقهما نحو ظلِّكِ؛ ما قدَرَتا على خطوتين بعيدًا عن شخصكِ، رجوتكِ؛ ازفري وجعكِ ما شئتِ؛ لكن بغير “نسيتَني”.
رعدٌ وبرقٌ ومطرٌ ونارٌ وبردٌ ودفءٌ؛ مجتمعةٌ كلُّ دواهي الشتاء في عتمتي هذه؛ ريحًا قاصفةً تجتاح جوانجي، الآن أفهم -يا حبيبتي- أن الشتاء ليس زمانًا؛ الشتاء مكانٌ سحيقٌ في أعماقنا، إنما فِعْلُ الزمان فيه أن يستخرجه منا وحسبُ؛ فتُهتك أستارُنا، ونكون على هذه الرَّجفة الشديدة من الحب.
ولقدْ ذكرتكِ والرِّماحُ نواهلٌ ** منِّي وبيضُ الهندِ تقطرُ منْ دمي
إنما الحب في الأهوال، لم أذق طعم الحب في رخاءٍ فأشهد له، وقديمًا كنت أذكركِ في أحلك ساعات تعذيبي فأُواسَى كثيرًا، أوَّه! لم تُبق رعشة الفؤاد لرعشة أطرافي من زمهرير هذا الليل شيئًا.
إِنَّ العيونَ التي في طرفها حَوَرٌ ** قتلننا ثمَّ لمْ يُحيينَ قتلانا
يصرَعنَ ذا اللُّبِّ حتى لا حَرَاكَ بهِ ** وهُنَّ أضعفُ خلقِ اللهِ أركانا
غدا كل مجاهدٍ يبرأ إلى الله من بيتي جريرٍ هذين؛ إلا أنا؛ أنا من صرعته بحقٍّ عيناكِ؛ غير أني جعلت موضع مصرعي حيث غايته، وغايته وضع الآصار عنكِ وعن قومكِ فداءً لعينيكِ، لقد برزتُ إلى فرعون برسالةٍ من موسى لا أعرف ما بها؛ غير أن ظرفها منقوشٌ عليه؛ “أَنْ أَدُّوآ إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ”.
“ابنُ الوَسِخَة”؛ تمامًا كما تقرأينها، لم يفقد لسانُ حبيبكِ عفَّته؛ كيف وأنا أكتب إليكِ من مصلَّاي في كهفي؟ لكن ما حيلتي والزَّنيم لا يُعرفُ إلا به؟ “والحرُّ ممتحَنٌ بأولاد الزنا”، أثابه الله عنا خيرًا عظيمًا إذ جعل القدس عاصمةً لليهود؛ لقد كادت -في أجيالٍ صاعدةٍ نازلةٍ- أن تكون نسيًا منسيًّا؛ فاليوم يبعثها الله في قلوبنا بعثًا جديدًا، دُحُورًا -يا ابن اللخناء وخنثاك في مصر- ولكم عذابٌ واصبٌ.
“متن أبي شجاعٍ”؛ قرِّي عينًا؛ بقيتْ لحبيبكِ من حفظه فقرتان، وذا شرحٌ ثالثٌ له بين يدي، أُراوح بين مطالعته وبين تدريبٍ على “الدوشكا” عسيرٍ، خاب المقتسمون؛ إما متفقهٌ وإما مقاتلٌ! أولم يكن أبو شجاعٍ قاضيًا أولَ حياته ناسكًا آخرَها فقيهًا بينهما؟ ويلي! كيف أُنسيت حاشية شيخ الثوار الشهيد “عماد عفت” أدرسُها؟ ولم يزل يُطرفني لذيذُ تشغيبكِ على مذاكرتي في “واتساب” أيامَ عقدنا؛ إذ تقولين: لا أنهي المحادثة وأدعك حتى تجيبني؛ من وصل “ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ”؟
أبو شجاعٍ عمادًا في تعفُّفهِ ** أمْ شيخُ ثورتنا قدْ طالَ بالشَّجَعِ
تكتبين: ديارنا! ما علمت ديارنا صالحةً للحب يومًا؛ أليست هي الديار التي يقول حكماؤها!: “إن الجدار له أذنٌ”؟ فلقد تعلمين حبيبكِ؛ لا يناسبه قطُّ ذلك النوع من الحب الهزيل؛ فأيُّ ديارٍ؟!
أنا لنْ ألينَ ولنْ أخونْ ** ولنْ أُغادرَ رَكْبَها
أنا لنْ أُهادنَ منْ بغوا ** يومًا على أبرارها
“سمك السردين”؛ تصدِّقين أني ما شبعت بعده مرةً واحدةً؟ كيف طهوتيه يومئذٍ؟ وأنا أصدُقكِ أيضًا؛ ما ذكرته الآن من شوقٍ لأشقى؛ بل ذكَّرنيه قائدٌ -هنا- بالأمس في حديثٍ عن “القنبلة العنقودية”، قال: “ما إن تقع القذيفة حتى تأخذ بالدوران؛ بسبب زعانف الذيل الذي يشبه ذيل السمكة السردين”.
لا والله حبيبتي؛ ما كانت نزهة صيدٍ مع “صوفيا”، ولا كان ما على كتفي الأيمن بندقيةٌ ألهو بها، من وَشَى بصوري تلك عندكِ؟ قُتل النَّمَّامون؛ بل كان “آر بي جي”؛ فماذا عليَّ إذًا من جناحٍ؟ ألم تكن ضراعتكِ لي ذات تهجُّدٍ بسَحَرٍ؛ “يارب آر بي جي؛ يجاهد حبيبي بيه”؛ أفذنبي أنكِ كنتِ صادقة الرجاء؟! الآن الآن أحمله حبيبتي؛ كما حمل إخلاصُكِ دعاءَكِ حتى اخترق حُجُب السماء.
الحُب؛ قاتل الله ضمَّة الحاء به؛ تذكِّرُني كلَّ ضمةٍ بيننا كانت، فأنا كائنٌ بآثارهن إلى يوم لا أكون.
الشهيد والحور العين؛ لم يَعِدِ الشهيد بحورٍ عينٍ هذا الوعد الفيَّاض؛ إلا ربٌّ “يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ”؛ إن كل معنىً يخوضه المجاهد -في غربته- لَيشدُّه إلى كل معنىً في “المرأة” شدًّا؛ من يوم “زمِّلوني زمِّلوني” فزمَّلته خديجة، إلى يوم “قُبض رسولُ الله بين سحري ونحري” تباهي بها عائشة، وما كان بينهما من تكاليف الرسالة بين حاجات النفس في شدائد الحياة.
بارودتي بيدِي ** وبجُعبتي كَفَني
يا أمتي انتظري ** فجْري ولا تهِني
شظيةٌ وذخيرةٌ وكبسولةٌ ورصاصٌ وزنادٌ، والبارود وحده؛ كم كنت تملِّين هذه الأغنية أكررها كثيرًا! لم يكن حبيبًا إليَّ فيها شيءٌ غير البارود؛ يقولون إن أول استعماله كان في الذود عن غرناطة.
حبيبتي؛ عَلَقَة تماسِّنا ببطنكِ هي بقيتي فيكِ الباقيةُ من بعدي؛ ولدُنا مضغتُنا؛ حملُكِ به يشبه اعتناءكِ بي نائمًا، رضاعتكِ له تحاكي برَّكِ بي يقظانًا، أما تأديبكِ إياه فثغرٌ كتب الله لكِ كفايته وحدكِ، فإن يكن ذكرًا فألحقيه بحنظلة غِسِّيل الملائكة، وأخبريه أني ما خرجت إلا لما خرج له سيدي رضي الله عنه، وإن تكُ أنثى -“وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَى”- فاجعليها مثلكِ أنتِ، لا أريد بها مزيدًا عليكِ في شيءٍ.
“النفاذ في الفولاذ”؛ هذه كلمة السرِّ بيني وبين ولدي، حفِّظيه إياها؛ لتكون كلمة سرِّ هاتفه وحاسوبه وكلِّ آلةٍ ذاتِ كلمة سرٍّ، حتى إذا لقيته في عرصات القيامة وسارَّني بها في أذني عرفته؛ فلَثَمْتُه هناك وعانقته، وفاخرت به الآباء في حضرة الله، أَوصيه بكل ما أوصيتكِ به فيها، لا أريده أن يعرف أنها معيار قوة قذيفة “الآر بي جي”؛ ذلك شيءٌ يعرفه آحاد الناس؛ بل أريدها معنىً ضخمًا هائلًا في نفسه، يقوِّي ظهره في الحياة كلها؛ حتى ينفذ هو في كل فولاذٍ، واستعيني الله.
رحم الله جدَّتي؛ قالت لي: لما بلغ والدتَك نبأُ شهادة أبيك -أسعده الله- سألت من فورها: ضُرب في بطنه أم في ظهره؟ عجبنا لسؤالها! وكان حذر المرأة أن يكون بطلُها قتل مدبرًا؛ لا إله إلا الله.
لا أحلى فيكِ بعد أنكِ حبيبتي من أنكِ أمي سوى أنكِ صاحبتي؛ شُدِّي أزري، يقولون إن روميل لم يخسر حربه لنقصٍ في كفاءته؛ بل لضعفٍ كان في الدَّعم الجوِّي، فأنت -يا حديث أنفاسي- جوِّي وأرضي وسمائي، أنتِ أنتِ، شاركيني أمري؛ كي نسبِّح الله كثيرًا، ونسفح دم عدوه كثيرًا.