ربَّاه واسِ بهذا الحرف كل

ربَّاه واسِ بهذا الحرف كل ذي بلوى، واجعله برأفةٍ ورحمةٍ حنانًا له وسلوى:

إلام تحسب البلاء قضاءً عابرًا في حياتك!

أيُّ شيءٍ أدخل عليك أن البلاء بالشر أفتكُ منه بالخير!

متى تنقضي دهشاتك من دواهي دارٍ لم يكتمك الله فيها علمًا!

أمن محسوسٍ أم معقولٍ أم خبرٍ؛ كانت ثقتك بالدنيا، وراكنًا مطمئنًّا!

ألم يكن حق اليقين من لبيبٍ عضَّته الحياة عضَّتين؛ أن يبيت بسرِّها بصيرًا.

كيف لم يزدك صريح قبحها إلا حُسن ظنٍّ بها؛ غير أن تكون مجنونًا!

من أنكد عِيشةً من الظانِّين البلاء بالسيئات في حياتهم الدنيا؛ أمرًا محتمَلًا!

تَصْدَعُك حقائق الشرع والقدر بفاصلتين: إنما الحياة امتحانٌ، أنت هنا لتُختبر.

هل أتاك أن شهوةً عارضةً لامرأةٍ أَمْكَثَت نبيًّا ابن أنبياء في السجن بِضْع سنين! أم لم يأتك أن نبيًّا ابن نبيٍّ ذبحه ملكٌ وأهدى رأسه الشريف فاجرةً لقاءَ رضاها بزواجٍ حرامٍ! صلى الله على رسولَيه يوسف ويحيى وسلم؛ أفإن لقيتِ الدنيا أكرم العباد على الله بهذا الوجه فظاعةً؛ لقيتك أنت بوجهٍ صَبيحٍ!

إن اليقين الذي لا يَعْتَوِرُه شكٌّ أن لأبي هريرة حافظِ سنة رسول الله -صلى الله عليه- الأعظمِ حظًّا من الجلال في قلبك، وأن لحذيفة بن اليمان أمينِ سرِّ رسول الله -سلم الله عليه- الأكرمِ نصيبًا من الإكبار في نفسك؛ فهذان الضخمان وعشراتٌ من أصحاب محمدٍ -رضي الله عنهم- كانوا من أهل الصُّفَّة، وما أدراك ما الصُّفَّة! الصُّفَّة: ظُلَّةٌ بآخر مسجد الرسول يأوي إليها أهلُها وقد عدموا الأهل والمال والدار جميعًا، طعامهم وشرابهم وكساؤهم مما تجود به النفوس عليهم، إن الله في عليائه لشهيدٌ ما يصيب قلبي من أليم الوجع؛ كلما تخايلت أبا هريرة وحذيفة وأضرابَهما ينتظرون في صفٍّ من الناس عطايا السُّراة عليهم؛ أفإن جاع هؤلاء في الدنيا وظمئوا؛ ابتغيت فيها أنت شِبَعًا ورِيًّا!

لقد كنت أظن قديمًا أنه لا أدلَّ في القرآن على قِدَم شأن ابتلاء الإنسان؛ من هذه الآية: “إِنَّا خَلَقْنَا الْإنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ”، وأقول لنفسي وإخواني كالأستاذ: تأملوا كيف قرن الله بين الإنسان -ولم ينفكَّ ماءً مهينًا في رحِم أمه- وبين الابتلاء! حتى بدَّدَت ظني آيةٌ تحكي ابتلاء الإنسان مقرونًا بخلق الأرض من قبله: “إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا”، ولم يكد عقلي يسكن إلى هذا الميقات؛ حتى فاجأته آيةٌ تحكي ابتلاء الإنسان مقرونًا بخلق الموت والحياة قبل خلق الأرض من قبله: “الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا”، لتَبْهَتني من بعدها آيةٌ تقرن ابتلاء الإنسان بعرش الله ذاته: “وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَآءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا”؛ حتى انقضى كلُّ ما دون اليقين في قلبي بآيةٍ تحكي ابتلاء الإنسان فعلًا ثابتًا من أفعال الله: “إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ”.

كأني بك الآن تلعن كل دجالٍ نهش من عمرك ونفسك وعقلك ومالك ما نهش؛ ليقول لك في نفسك وفي الحياة عكس ما قال باريها وباريك؛ لكن يواسيك أن هؤلاء لم يكذبوا عليك حتى كانوا على الله كاذبين.

عن الدنيا؛ يصارحك الله بحقائقها على وجهها، أن ستفقد من أمانك وسلامك، ويذهب من طعامك وشرابك، وتخسر من عملك ومالك، ويفارقك أشدُّ من أحببت حبًّا إلى آخر الحياة؛ “وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ”؛ هذه هي الدنيا (لا إبهام ولا إيهام).

عن الدين؛ يكاشفك الله بحق أمره قبل توقيعك عقدَ العبودية معه؛ “وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ”، ويقول لك: “لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوآ أَذًى كَثِيرًا”؛ هذا هو الدين (لا تلبيس ولا تدليس).

عن المعركة الوجودية المستعرة بين عبيد الدنيا وأولياء الدين؛ يواجهك الله بواقعها أخبارًا وأسرارًا، يقول لك قبلها: “وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ”، ويقول لك بعدها: “وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ”؛ هذه هي الحرب (لا مواراة ولا مداراة).

يا عبدًا لله لا يعدل بصدقه حديثًا؛ إذا قال ربك في شيءٍ قولًا فهو حَسْبُك من معناه حتى تلقاه، قل: كفى بالله، وأصِمَّ أذنيك عما سواه.

لعلك توهمت الحياة كلها مواجعَ مصائبَ وفواجعَ نوائبَ! بل ابتلاء الله الناسَ فيها بالرخاء أوسع من ابتلائهم بالشدائد وأعظم، وإنما البلاء بَلْوُ البواطن في السراء والضراء لاستخراج فجورها أو تقواها، يمتحن الله عباده بالخفض والرفع لينظر كيف يعملون! “وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً”، “وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ”، يُقلِّب من شاء فيما شاء كيف شاء متى شاء عليمًا بنا حكيمًا؛ “إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ ۚ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا”؛ هو المستعان على الشكر والصبر جميعًا.

أنا ونحن وأنتَ وأنتِ وأنتما وأنتم وأنتن وهو وهي وهما وهم وهن؛ (أنا) ذو حاجةٍ مطويةٍ في صدري تلدغني لسعاتُها لا أجد لها قضاءً، (نحن) أمة (الإيغور) يسُومنا ملاحدة الصين سوء العذاب فوق ما خطر لفرعون بني إسرائيل على بالٍ، (أنتَ) بلغت الأربعين ولم تظفر بتاء تأنيثٍ إلى ياء مخاطَبةٍ من نون نسوةٍ، (أنتِ) متزوجةٌ منذ عشر سنين تشتهين طفلًا تستبردين به لَوَاعِج أمومتك، (أنتما) مريضان لا تستطيعان مع المرض المزمن ما يستطيع الأصحاء، (أنتم) قومٌ من (بورما) يحرق أجسادكم بالنار شر كفار الأرض لا يبالون بكم، (أنتن) نساءٌ تقاسين في بلادكن غربة الإسلام عقيدةً وشريعةً وأخلاقًا، (هو) مسكينٌ مهما كَدَح إلى وظيفةٍ بعلمٍ وعملٍ لا يَقَرُّ له فيها قرارٌ، (هي) ذات زوجٍ فظٍّ غليظٍ لا يَرقُب فيها إلًّا ولا ذمةً، (هما) أسيران لا تُعرف لهما بعد خطفهما من نظام بلدهما الكافر حياةٌ ولا موتٌ، (هم) شبابٌ يقاتِلون في (إدلب) بغير خبرةٍ ولا عُدَّةٍ رؤوس الطواغيت وأذنابهم وقد خذلهم القريب والبعيد، (هن) بناتٌ تسلط عليهن أباؤهن في خاصة شؤونهن بجاهلياتٍ ما أنزل الإله بها من سلطانٍ.

والله وبالله وتالله؛ لو بقينا أجمعون في هذه المصائب أعمارنا كلها؛ ما كان ذلك في جَنْب القيامة شيئًا؛ فإن هذه الدار بكل ما فيها إلى زوالٍ، وإن لُطف الله محيطٌ بنا على كل حالٍ؛ ليس هذا من كيسي؛ بل من كيس رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: “لو أن رجلًا يُجَرُّ على وجهه من يوم وُلد إلى يوم يموت، هرمًا في مرضاة الله؛ لحقَّره يوم القيامة”، وقال: “يودُّ أهل العافية يوم القيامة -حين يُعطى أهل البلاء الثواب- لو أن جلودهم كانت قُرِضَت في الدنيا بالمقاريض”؛ صدَق الله وصدَق رسوله.

أنا ونحن وأنتَ وأنتِ وأنتما وأنتم وأنتن وهو وهي وهما وهم وهن؛ ليس بلاء أكثرنا -بحمد الله- في شيءٍ من هذا؛ بل أكثر بلاء أهل هذا الزمان مُصنَّعٌ رأسماليًّا، (بلاء السوق)، الشعور الكاذب الخاطئ بالنقص والضعف والعجز عن إدراك معروضات المادة التي تحاصرنا إغراءاتُها من كل جانبٍ.

“الدنيا سجن المؤمن”؛ فهو يتقلب بين زنازينها ما بقي فيها، لا فضل لزنزانةٍ على زنزانةٍ إلا بفَضْلَةٍ من سعةٍ ورفاهيةٍ؛ مَن فقه هذا لم يكن همُّه إلا الخروج منها جميعًا، ولا يُستطاع ذلك إلا بالله.

“اللهم فرحًا لا يَعقبه حُزنٌ”؛ كتبه مسكينٌ في ضرٍّ قارصٍ، بخَمس ساعاتٍ تحصد خمسة ألفاظٍ خمسة آلاف إعجابٍ! رجوت له حين قرأت دعاءه وللراجين رجاءه -معجبين ومعلِّقين ومشاركين- دخول الجنة أجمعين؛ ليقول وإياهم في أهلها: “الْحَمْدُ لِلَهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ”؛ لكنه لا جواب لهذا الدعاء -وإنْ صرخ به الصارخون- قبل أعتاب الجنات مكانًا، ولا انتهاء لأحزانهم -مهما فتكتْ بأفئدتهم- قبل مُكثهم لحظةً في الفردوس زمانًا؛ هناك يشهدون بين صدق السرور وحق الحبور زيف كل فرحةٍ سلفتْ، وتلهج أرواحهم بعد طول صبرهم (في الطاعات وعن المعاصي وعلى البلايا) بحمد الله.

ربَّاه واسِ بهذا الحرف كل ذي بلوى، واجعله برأفةٍ ورحمةٍ حنانًا له وسلوى.

أضف تعليق