من قال: خلق الله الإنسان للسعادة؛ كمن قال: خلق الله الإنسان للعبادة.
أليست العبادة في الدنيا هي السعادة الحقَّة الخالصة، وفي الآخرة هي الوسيلة الماضية الوحيدة للسعادة الآتية الوحيدة! فليست حكمة خلق الإنسان إذن إلا إسعاده، لا شريك لها من الحِكَم. فإذا هو فرَّط في عبادته ففرَّط في سعادته؛ فليَلُم نفسَه المفرِّطة لا ربَّه الذي ما فرَّط في إسعاده بشيءٍ.
ابتدأ خلْقك من العدم لأجل السعادة، وعرَّفك بنفسه معبودًا وبالعبادة، وأرسل إليك رسولًا صنعه لك على عينه هو بابُها، بكتابٍ يُكَلِّمك فيه بذاته حَشْوُه أسبابُها، وفَطَرَك عليها فهيَّأك لقَبول شرائعها جميعًا، ولم يناقِض عقلَك بعقائدها فأحسن به صنيعًا، ولئن خلَق الشيطان والدنيا أعداءً لك يصدُّونك عنها؛ فقد جعل الملائكة وصالحي المؤمنين أولياءَ يُقَرِّبونك منها، وجعل كل ضعفٍ يبتلي به جسدك وسيلةً لتخفيف أحكامها عنك، وكل خطيئةٍ تجاهد نفسك في اجتنابها ذريعةً لقربه منك، ولو شاء أن تعبده عبادةً لا تخرقها الذنوب لقهرك بالجَبْر عليها؛ لكن أراد منك عبادة المجاهَدة تغالب أعداءه مستعينًا به حتى يُوصِلك إليها، وجعل يأسك من رحمته كفرًا به مهما عظُمت الخطايا، وألزمك حُسن الظن به ووعدك عليه أجزل العطايا، وأخبرك قبل عصيانك إياه أن ذلك كائنٌ منك لا محالة؛ لكن لا تعمد إليه ولا تُصِرَّ عليه وعجِّل المتاب قبل الإيالة، وجعل عيوبك التي تُبَغِّضُ إليك نفسَك أعوانًا على حِفظ افتقارك إليه، وكروبك التي غالبُها عقوبات أوزارك أسبابًا لكرامة دخولك عليه، حتى إذا لقيته عابدًا إياه غيرَ مشركٍ به أحدًا سواه؛ أحاط ذنوبك بمغفرته لا يبالي كما يبالي كلُّ معبودٍ عداه؛ فسبحان ربك وتبارك أيها العبد المبارك!
يا أحظى الخلق بإيجاد الرب؛ لله ما أوفى سعادتك بعبادتك، وأولى عبادتك بسعادتك! ما هذه إلا تلك، وما تلك إلا هذه، فلو قال الله لك عابدًا: يا أسعد خلقي؛ كما لو قال لك سعيدًا: يا أعبدَهم، ما أنزل الله إليك القرآن لتشقى.
العبادة السعادة السمائية لا الأرضية، الحقَّة لا الباطلة، الحقيقية لا الصُّورية، الخالصة لا المكدَّرة، المطْلقة لا المقيدة، التامة لا الناقصة، الكلِّية لا الجزئية، العامة لا الخاصة، الواسعة لا الضيقة، السرمدية لا الزائلة؛ اعبدوا تسعدوا.