هل أسامح من ظلمني؟ أم

هل أسامح من ظلمني؟ أم أدعو عليه؟ ما أصلحُ للبال والحال والمآل جميعًا؟

سامح المسلمين (الذين لا يوالون الطواغيت وهم على صلاتهم يحافظون) جميعًا؛ لكن لا تُظهر المسامحة إلا لمن كان لإظهارها أهلًا (الذين يسْعَون في أداء الحقوق أو كانوا عنها عاجزين)، أما الذي يقدِر على الأداء ولا يبالي؛ فلا تُظهر له المسامحة؛ بل أظهر له ضدَّها؛ لعله يتذكر أو يخشى.

إن الذي يغفر لظالمه من المسلمين ويتجاوز عنه؛ إنما يُعرِّض نفسه لمغفرة الله وتجاوزه في الدارين؛ فإن جزاءه من جنس العمل، مع ما ينال قلبَ الغافر المتجاوز من الصفاء والنقاء فما جعل الله له من قلبين في جوفه، وما يصيب نفسَه من لذَّة الانتصار على حظوظها، وما وعده الله به من العزة.

لقد عشت دهرًا أحسب هذه البواعث الأربعة على الصفح لا خامس لها؛ (مغفرة الله، وتزكية القلب، والانتصار على النفس، والعزة في الدنيا والآخرة)؛ حتى بَهَرَني باعثٌ خامسٌ اختصَّ الله به سيدًا من آل بيت رسوله -صلى الله عليه وسلم- فألهَمَه إيَّاه؛ ذلكم الشافعي الإمام رضي الله عنه؛ قال:

مَنْ نَالَ مِنِّي أَوْ عَلِقْتُ بِذِمَّتِهْ ** أَبْرَأْتُهُ لِلَّهِ شَاكِرَ مِنَّتِهْ

أَأُرَى مُعَوِّقَ مُؤْمِنٍ يَوْمَ الْجَزَا ** أَوْ أَنْ أَسُوءَ مُحَمَّدًا فِي أُمَّتِهْ

يتقاصَر كلُّ بيان إنسٍ وجانٍّ عن نعت هذا المقام العُلويِّ الذي رفع الله إليه نفْس هذا السيد الجليل.

هانت عليه نفسه في محبة الله والرسول والإسلام؛ حتى أعدَم كل حظوظها لأجلهم مع الحمد والرضا؛ شهد حكمة الله في قدَر مظلمته فشكر له، وعرَف حق الإسلام فغفر لمسلمٍ يؤاخيه فيه، وتعشَّق فؤادَ رسول الله فحاذَر أذاه في تابعٍ له يعاقَب بسببه يوم القيامة؛ وتلك مواهب الله يؤتيها من يشاء.

ثم إن ربك لمن تخلَّق بصفةٍ من صفاته السائغ الاتِّصافُ بها وهي صفة أنبيائه؛ لغفورٌ شكورٌ.

هذا بابٌ، وسعيُك بكل سببٍ مباحٍ متاحٍ في انتزاع حقك -مستعينًا بالحق الأكبر سبحانه- بابٌ آخر؛ فإنه حق الله قبل أن يكون حقك، ثم إنه حفظٌ لعُروة العدل من عُرَى الإسلام أن تُنقض من جهتك، وصيانةٌ للميزان الذي وضعه الله في الأرض لا تُحرَس إلا به، وتخفيفٌ عنك وعن ظالمك في الدارين.

لكن اعلم أن هذه الدار ليست بدار استيفاءٍ، “وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ”، وأن عامة المستوفين ما لهم يخسرون الأدنى مع الأعلى أو يَجُورون؛ قالت عائشة رضي الله عنها: “لله دَرُّ التقوى؛ ما تركتْ لذي غيظٍ شفاءً”، وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: “من خاف الله لم يشف غيظَه”.

ذلك؛ ومن لم يقدِر على العفو فلا شيء عليه، ومن كان ولا بد داعيًا على ظالمه فبقدْر مظلمته.

“خُذِ الْعَفْوَ”، “فَاعْفُ عَنْهُمْ”، “فَاصْفَحْ عَنْهُمْ”.

“وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوآ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ”.

“إِن تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَن سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا”.

“ارحموا تُرحموا، واغفروا يغفر الله لكم”.

“عبدي؛ اذكرني في غضبك؛ أذكرك في غضبي لا أمحقك فيمن أمحق”.

“ولا يعفو عبدٌ عن مظلمةٍ -يبتغي بها وجه الله- إلا رفعه الله بها”.

“وما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلا عزًّا”.

“فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ”.

“ينادى منادٍ يوم القيامة: أين الذين كانت أجورهم على اللَّه؛ فلا يقوم إلا من عفا”.

“ما أحدٌ أصبرَ على أذًى سمعه من الله؛ يدَّعون له الولدَ، وهو يرزقهم ويعافيهم”.

كم نعفو عن الخادم يا رسول الله؟ قال: “اعفوا عنه كل يومٍ سبعين مرةً”.

“ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ”.

“يا أيها النبي؛ إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا، وحِرْزًا للأُمِّيين، أنت عبدي ورسولي، سمَّيتك المتوكل، ليس بفظٍّ ولا غليظٍ، ولا سَخَّابٍ في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة؛ ولكن يعفو ويغفر”.

“كانوا يكرهون أن يُستذلُّوا، فإذا قدَروا عفوا”.

“إياكم ورأي الأوغاد؛ الذين يرون الصفح عارًا”.

“إنا لا نكافئ من عصى الله فينا؛ بأكثرَ من أن نطيع الله فيه”.

أعذنا اللهم أن نَظلم أو نُظلم، أو نَجهَل أو يُجهَل علينا؛ حتى نلقاك في عبادك المسلمين السالمين.

أضف تعليق