ممَّا علَّمتنيه “المُطارَدة”؛ أن أكثر ما كنت أتوهَّمُه من الأشياء ضروريًّا للحياة كان حاجِيًّا فقط؛ بل كثيرٌ من هذه الحاجِيَّات تحسينيَّاتٌ لا أكثر من ذلك، وأن أقل القليل من المآكل والملابس والأثاث كافٍ -وزيادةٌ والله- لصلاح البال والحال، وأن التخفُّف من أثقال عالم الأشياء يُفسِح لك في عالم المعاني مكانًا رَحْبًا أنت أشد فاقةً إليه، كما يبسط لك تخفُّفك من الحركة الحرة -أينما شئت- ما تعجز عنه وأنت مكبَّلٌ بالأغلال محمَّلٌ بالأثقال، وأن السعادة في القلب من الرَّبِّ غيرَ مرهونةٍ بشيءٍ من هذا جميعًا.
اليوم تبدو لي حقيبتي الصغيرة -التي هي كل ما أحوز منذ سنواتٍ- كبيرةً لا أبلغ آخرها؛ أؤكد لكم -أيها السادة- أن فيها من رفاهيات النفس ومظاهر الرخاء شيئًا وفيرًا، وأني من القوم المُترَفين.
إن فيها قصَّافةً أُقَلِّم بها أظفار الأطفال حين أظفر بها طويلةً، وفيها عُلبة مناديل زائدةٌ على عُلبةٍ زائدةٍ على ما أحتاج إليه، وفيها زجاجة عطرٍ غير التي في جيبي وغير التي في جيبٍ آخرَ بها.
ما أشد تعاسة الذين يتقلَّبون بين البؤس والحرام من الشباب والفتيات؛ حتى يشتروا بيوتًا ويُجهِّزوها بشِقِّ الأنفُس وفناء الأنفاس! لا لتَوقُّف الزواج عليها -كذبوا وربُّك الحقُّ- بل رِئَاءَ الناس.
في رحلة تنقُّل الأسرة العزيزة بين قارَّتين وثلاث دُوَلٍ وخمس محافظاتٍ وعشرين شقةً؛ لم نُحِسَّ هذا الفرق الذي يتخايل الناس عظمتَه -في المأكل والمشرب والملبس والمرقد- بين مكانٍ ومكانٍ.
حين لا تشغل عقلَك إلا بما يُصلح شأنك -على الحقيقة- دينًا ومعاشًا؛ لن تجد كبير بَوْنٍ بين شقة مستأجَرةٍ وأخرى مملوكةٍ، وستعلم يقينًا أن عامة ما عطَّلت ابتهاجَك لتحصيله فيها كان زيفًا.
إن سُكَّان الزنازين هم القادرون وحدَهم على تحديد ضروريات العِيشة الراضية؛ إنهم العارفون قيمة الشِّبر من الأرض إذا سَلِم من الخوف، واللقمة من الخُبز إذا طُعمتْ في حضرة المحبوب.
حين غُلِّق علي بابُ الزنزانة منذ ثماني عشرة سنةً؛ لا أذكر أني تذكرت حلاوة ما تنعَّمت بوجوده ولا مرارة ما شقيت بعدمه في الحياة كلها التي سبقت هذه اللحظة؛ لم تبق لي إلا بَقِيَّة الله وكفى.
هل تصدِّقني وأنا في الأربعين! إن الزمان أنت والمكان أنت والمعاني أنت والأشياء أنت؛ أنت الذي هو قلبك وجسدك وما يفتقران إليه من ذلك كله حقًّا؛ لا ما تحدِّده لك الرأسمالية النَّهَّابة النَّهَّاشة.
إذا فرغ لك موضعٌ من الأرض تصلِّي فيه فذلك المكان كله، وإذا انتزعت من الدهر دقائق تُسعد فيها الناسَ فهذا الزمان جميعًا، وإذا لم تخضع لمخلوقٍ في طُعمةٍ تَطعمها فتلك الحياة نفسها.
حتى حقيبتي إذا فقدتها وبها كل أشيائي؛ لن أبيت كئيبًا، ولن أصبح بائسًا، لقد أرشدني الله إلى مكانٍ حفظت فيه كل ما أحب فلا يضرُّني معه فقدٌ؛ ذلكم قلبي، إن فيه الرضا، وهو لي كل شيءٍ.