حين تقول لي والدة أسيرٍ: “قلبي وجِعني على ابني مش قادرة”؛ أتباشر بها لولدها تباشُرًا عظيمًا، ولولا تعشُّق الشفاء لقلبها المَكلوم لرجوت مزيدَ وجعِه؛ حتى يُعجِّل الله في ولدها الخيرَ بنجاةٍ أو شهادةٍ.
إن لوجع قلوب أمهات الأسرى وآبائهم حقيقةً في السماء وصورةً في الأرض؛ فأما حقيقته في السماء فغيرة الرب الجليل عليه أن يضيع شيءٌ منه سُدًى، وكيف يضيع وهو الخالق البارئ المصور قلوبَ الأمهات والآباء، الشهيد على ما حوت من عجائب الرأفة وغرائب الرحمة بالأبناء! وأما صورته في الأرض فلُطفٌ خفيٌّ مدهشٌ يتنزل على الأسرى حيث كانوا -على حين شدةٍ من آلامهم- يحسُّونه في أنفسهم لا يشهدون له أسبابًا، ثم يحدثونك عنه بعد نجاتهم وما فعل فيهم بأحاديثَ ذاتِ شُجونٍ!
ثم إن لوجع قلوب الأمهات والآباء بركاتٍ أُخَر؛ استمطار لعنات العزيز المقتدر على الطغاة في الدنيا قبل الآخرة؛ فهؤلاء ضباطٌ في ثُكْنَةٍ لهم يسلط الله عليهم -ضُحًى وهم يلعبون- وليًّا من أوليائه، فيفجِّر فيهم نفسه ليُعجِّل بهم إلى نارٍ طال تشوُّقها إليهم لتذيقهم صُنوف عذاب الحريق، وهؤلاء عسكريون يضرب الله قلوب ساداتهم بغضبٍ عليهم، فيعزلونهم فجأةً عن مناصبهم، فيموتون قبل موتهم إذ يُردُّون إلى أحوالٍ بشريةٍ تنكرهم وينكرونها، وهؤلاء قضاةٌ خبَّأ الله لهم أمراضًا نفسيةً وعصبيةً تلفُّهم بأثواب التعاسة لفًّا، وهؤلاء وزراء تدور عليهم الدنيا كما دارت لهم، فيُطرحون في سجنٍ من السجون لا يُبالَى بهم، وهؤلاء جنودٌ حال الله بينهم وبين صلاح البال كما حال بين المشرق والمغرب، فلا يعرفون له سبيلًا، وهؤلاء رؤساء سلبهم الله العِيشة الراضية بين الأهل والأبناء فبعضهم لبعض عدوٌّ في كل شيءٍ، وهؤلاء كبراء أذل الله نواصيهم بأسقامٍ في أجسادهم لا ينفعهم فيها طبيبٌ ولا دواءٌ؛ وهؤلاء أمراء حرَمهم الله الأمن في بروجهم المُشيَّدة وحصونهم الحَصينة، فيحسبون كل صيحةٍ عليهم؛ ما ذاك كلُّه وسواه إلا عذابٌ يسيرٌ بين يدَي عذابٍ في قبورهم ويوم لقاء الله أشدَّ وأشقَّ، لو كانوا يعلمون.
يا أفئدة المظلومين؛ توجَّعي أو لا تتوجَّعي، هذه دارٌ يليق بها ذلك وأكبر من ذلك، ولو أن الله جعلها دار الراحة، ثم تعبنا فيها ولَغِبنا؛ لتحيرنا وعجبنا؛ لكنه بسط القول في حقيقتها وزاد، ولعلك ترتاحين -ونرجو الله- قريبًا غير بعيدٍ؛ لكنَّ كل راحة هنا إلى نفادٍ، وقد جعل الله للراحة الكبرى موعدًا.