غيرَ متفكِّهٍ كتبت هذه المقامة، غيرُ ملومٍ من رآها فاستطالها؛ امض عنها بسلامٍ وأنت حبيبي.
هو مُسْنَدٌ في القراءات العشرة الكبرى، قد عزم يوم طَرَقَها أن يُحيط بها خُبْرًا، فحفظ لها متونًا وتحريراتٍ، وأتقن بها شروحًا وتقريراتٍ، إسناده فيها أعلى الأسانيد، وتجويده إياها أحكمُ التجويد، قد تلقَّاها من مشايخَ مشاهيرَ عِدَّةٍ، وصَبَر نفسَه في حَذْقِها أطولَ مدةٍ؛ حتى صار يشارُ إليه فيها بالبَنان، ويقصده طلابها النُّجباء من كل مكانٍ؛ لكنَّ شيوخه الدراويش لم يُعرِّفوه الجاهلية التي ما نزل القرآن إلا لحربها، ولا الطواغيتَ المانعين مساجدَ الله أن يَحكم فيها القرآنُ سُعاةً في خرابها، إذا رأيته يُحَرِّر قراءتها ويُحَبِّر تلاوتها أتبعتَ بصرَك السماع، فإذا تحقَّقتَ جهلَه بحقائق القرآن الكونية والشرعية توليتَ عنه بإسراعٍ، لا تعزُب عنه قراءةٌ عَشْريةٌ في النساء والمائدة والأنعام؛ لكنه جهولٌ بأنها معاقد الحاكمية والحُكم والأحكام، قد أحصى ما في “فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ” من رواياتٍ متواترةٍ، وغفل عما فيها من فرائض التوحيد الفارقة ونواقضه الظاهرة، وكم تبصَّر ما في “أَمْ لَهُمْ شُرَكَآءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ” من طُرُقٍ صحيحةٍ! وتعامى عما فيها من براهين تكفير المبدِّلين الشرائعَ الصريحة! غيرُ سائغٍ نظرًا فيما درَّسوه وضعُ وجهٍ مكانَ وجهٍ في بعض آيةٍ؛ لكنْ سائغٌ عملًا إحلالُ دينٍ جاهليٍّ مكانَ دين الله أجمعَ بلا نهايةٍ، يسمع مُلَفِّقًا بين القراءات في آيةٍ واحدةٍ فتثور منه الخوامد، ثم يرى المبدِّلين عقائدَ الإسلام الطامسين شرائعَه فتراه الجامد الهامد، قد ذاكر طالبًا صغيرًا ألفَ باءَ هذا العلم الشريف فميَّز بين الأصول والفُروش، واليومَ شيخًا كبيرًا لا يميِّز في المعركة بين المَطاهر والحُشوش، لو خطر على بال الشاطبي وابن الجَزَري أن مثله يحفظ مُتونهم ما نظموها؛ بما وَرِث عن أشياخه الدراويش التفريقَ بين القرآن فمبانيَه أتقنوها ومعانيَه ضيعوها، ألا ليت شيوخه إذ عرَّفوه بالإمام “قنبل” راوي ابن كثيرٍ المكي عرَّفوه ضرورة القنابل، وليتهم حين فرَّقوا له بين خَلَفٍ راويًا وإيَّاه قارئًا فرَّقوا له بين الحابل والنابل، يضحك مِلْءَ شِدْقَيه إذا خلط خالطٌ بين رَاوِيَيْ أبي عمرٍو البصري “الدُّوري والسُّوسي”، وتضحك منه الثكالى وهو يؤصِّل بالأدلة لحاكمية خنثى الطواغيت السيسي، ألا إنه لو لقي الله يَتَتَعْتَعُ في القرآن وقد جاهد في سبيله وإنْ باللسان؛ لكان خيرًا له من أن يلقاه ماهرًا به ضالًّا عن غاية إنزاله بالإثم والعدوان، لقد رضي رسولُ الله من رجلٍ عَجْزَه عن القراءة في الصلاة جميعًا؛ لكنه إذا لقي يوم الحشر قارئًا بالعشر مواليًا عدوَّه سَخط عليه صنيعًا، لعل المكاثر بالقراءات لم يَبلغه “أكثرُ منافقي أمتي قرَّاؤها” وعيدُ الرسول المَهيب، فلم ترعبه حروفه كما أرعبت السابقين الصِّدِّيقين حتى باتوا بها في نحيبٍ، ألم يأت البعيدَ نبأُ “أولُ من تُسَعَّر بهم النارُ” وأولهم قارئٌ للقرآن! وأي شيءٍ أوجبُ لعذاب صاحب القرآن من موالاة أعداء الرحمن! حسبُنا “يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا” من كتاب الله كله لنفقه الصراع؛ كفى بإظهارنا القرآنَ جُرمًا يُسْحِتُنا به أعداؤه بكل مستطاعٍ؛ يا هذا إنك إن تركتهم لا يتركونك؛ يعيدونك في ملتهم إذا ظهروا عليك أو يقتلونك.
هذه مقامةٌ لا تُزَهِّدك في هذا العلم الجليل، ولا تُرَغِّبك عن أهله السادة الأكابر؛ لكنها تُخَوِّفك عُرَى القرآن الثلاثة هذه؛ (حاكمية القرآن، والموالاة والمعاداة به، والجهاد في سبيله)؛ أن تُنْقَضَ من قِبَلِك وأنت له طالبٌ، وبقراءاته ورواياته وطُرُقه ووجوهه مكاثرٌ؛ إنها بإيجازٍ تقول: “خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ”.