وسواس التقويم؛ ما وسواس التقويم!
شُغلك بتقويم أقوالك وأفعالك -بقدْر موزونٍ- شيءٌ، وهَوَسُك بتقويم نفسك -في الدين والخُلق والعلم والعمل- تقويمًا عامًّا -كلَّ ساعةٍ- شيءٌ آخر؛ ذلك وسواسٌ يصيب المُولَعين بالكمال، ولا يزال بهم -ما لم تدركهم عافية الله- حتى يصْدَع رؤوسهم، ويُكْئِبَ نفوسهم، ثم لا تبقى لهم -على الأيام- طاقةٌ لفعل شيءٍ؛ بما استُهلكوا فيه من أليم جلْد الذات، وشديد الأسى على الفوات، وسوء الظن بما هو آتٍ.
يقول المسكين كلَّ إخفاقٍ: أنا فاشلٌ، وكلَّ معصيةٍ: أنا منافقٌ، وإنما الفاشل من قعد دون كرامة المجاهدة فيئس من دِيمَة المعاودة، والمنافق من أخلص للشيطان قلبه ورضي بالجاهلية دينًا؛ هُما لا أنت.
إن إطلاق الأحكام العامة في النفس كلَّ خطوتين على طريقٍ موحشةٍ؛ رُعونةٌ وبغيٌ وإفسادٌ كبيرٌ؛ رُعونةٌ في العقل فإن يسير التأمل في النفس والحياة والتكاليف يمنع من عظيم الطيش بهذه الأحكام الكُلِّية، وبغيٌ على النفس لا أضرَّ منه فيها فإنه مغلَّفٌ بغلاف الإنصاف منها، وإفسادٌ كبيرٌ فإن النفس إذا رسَخَت فيها هذه الأحكام تعطَّلت عن صُوَر الكمال التي كانت تنشده ثم تبطَّلت عن حقائقه.
ذا أعرابيٌّ عَدِمَ التوفيق جميعًا؛ دخل عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- يعُودُه في مرضٍ، فقال له: “لا بأس، طَهورٌ إن شاء الله”، فقال الأعرابي: كلا؛ بل هي حُمَّى تفور، على شيخٍ كبيرٍ، كَيْمَا تُزيرَه القبور، فغضب عليه الرسول الذي ما كان غضبه إلا في جلائل الأمور، وقال: “فنَعَم إذًا”؛ فمات بها.
يا أيها المُصِرُّون على شنق نفوسهم بأيديهم؛ ارفقوا بها، أنُلزمكم الإشفاق عليها وأنتم لها كارهون!