سينقضي حرُّ هذا اليوم العصيب

سينقضي حرُّ هذا اليوم العصيب كما ينقضي كل شيءٍ زائفٍ في هذه الحياة الدنيا، لكنَّ شيئًا آخر لا ينقضي؛ جزاء الحَكَم الحقِّ -جلَّ قسطُه- الذين أساؤوا بما عملوا، وجزاؤه الذين أحسنوا بالحسنى.

ها أنتم في بيوتكم وأعمالكم وتجدون من فَيْح الحرِّ وصَيْهَده ما تجدون؛ كيف بإخوةٍ لكم يسوقهم كفار مصر في عربات الترحيلات -بصفائحها الحديدية اللافحة- من السجون إلى النيابات والمحاكم!

لا ضير؛ إن مجاهدينا وأسرانا وسائر المستضعفين إلى الدَّيان منقلبون، وبين يديه -والشمس تتأجج من قيظٍ، والنار تتميز من غيظٍ- واقفون، إلا على من صَلَاه الطواغيت حرَّ الزنازين في الدنيا فكان من المحتسبين، أولئك لا يجمع الله عليهم بين حرَّين وإن الله لهو خير الشاكرين؛ عفوَك اللهم وعافيتَك.

“لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَآئِكَةُ هَٰذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ”؛ من قال إن يومًا قبل هذا اليوم لأصحاب الرسالة يومٌ؟! “هَٰذَا يَوْمُكُمُ”؛ وكل يومٍ قبل يومٍ تتلقى فيه الملائكة الصابرين على لأواء هذه الدعوة ليس معدودًا في أيامهم، “هَٰذَا يَوْمُكُمُ”؛ هذا اليوم -وحدَه- السرمديُّ أمانًا وحُبورًا ورضوانًا.

إن البرد إذا أعقب الحرَّ لم يبق من أثر الحرِّ شيءٌ، إن الموت إذا هجم فقطع أنفاس النفوس لم يبق من أثر الحرِّ شيءٌ، إن القبر إذا ضم أضلاع سُكَّانه لم يبق من أثر الحرِّ شيءٌ، إن الصُّور إذا نُفخ فيه لم يبق من أثر الحرِّ شيءٌ، إن زلزلة الساعة إذا وقعت لم يبق من أثر الحرِّ شيءٌ، إن جهنم إذا زفرت زفرةً لم يبق من أثر الحرِّ شيءٌ، إن الله إذا غضب يوم الصاخة غضبًا لم يغضب مثله قبله ولا بعده لم يبق من أثر الحرِّ شيءٌ، إن داهيةً واحدةً من دواهي الآخرة لا تبقي من آثار دواهي الدنيا كلها شيئًا.

ما الحرُّ وما كل عنتٍ وعناءٍ إذا تقبل الله منهم! ما الحرُّ وما كل عنتٍ وعناءٍ إذا رضي الله عنهم!

تحلو مرارةُ عيشٍ في رضاكَ وما ** أُطيقُ سُخطًا على عيشٍ منَ الرَّغدِ

يا مَولى القيامة وحرِّها، يا وليَّ جهنم ولظاها؛ أحرِق الطواغيت من أكبر جنديٍّ إلى أصغر لواءٍ -أجل؛ هي كما قرأتموها، لولا الجنود الذين تزوغ عنهم الأبصار ما قامت للطغاة قائمةٌ- في الدنيا قبل الآخرة إحراقًا، واحرمهم برد رحمتك أن يذوقوا منها في الدارين شيئًا، اللهم اكْو أفئدتهم في الدنيا حسراتٍ بانقلاب بأسهم وسَطوتهم ذلًا وصَغارًا، وأظلَّهم يوم الحاقة في يحْمُومٍ، واشو عظامهم في نزَّاعة الشَّوى، واسقهم من عينٍ آنيةٍ ماءً صديدًا كالمُهْل يشوي الوجوه، وشَوْبًا من حميمٍ في طينةٍ من خَبالٍ يُقطِّع أمعاءهم، وسلِّط أبين عذابك على أخفى ما نفوسهم وأجسادهم حتى لا تبقي منهم ولا تذر؛ جزاء ما كفروا بك، وصدُّوا عن سبيلك، وقاتلوا أولياءك، أنت من ورائهم محيطٌ، وعلى كل شيءٍ شهيدٌ.

“وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَآءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى”؛ تفعل بقلبي هذه الأفاعيل، أَكُلُّ شيءٍ في السماوات والأرض من خلقٍ وأمرٍ لذلك الجزاء وحده! الخلق كله (من أصغر ذرَّةٍ فما دونها إلى أكبر مجرَّةٍ فما فوقها، من أزل الخلق إلى أبده، ما عقل منه وما لم يعقل)، والأمر كله (من أول ما قضى الله به وأنزل منه وشرع فيه إلى آخر ما شاء من ذلك)؛ لمجازاة المؤمنين والكافرين! ما أهون ذا الحرَّ إذًا، وما أعذب العذاب لوجه ربِّ هذا الجزاء خيرِ الحاسبين!

يا أيها المجاهدون في سُعار هذا الحرِّ ابتغاء “لا إله إلا الله”، في الأرض رسوخًا وإلى السماء شموخًا؛ أخفضُ ما فيكم “نعالكم وما تحتها من ترابٍ شريفٍ”؛ فوق أرفع ما فينا “رؤوسنا وما علاها من هواءٍ لطيفٍ”، أنتم والله أنتم، وجودكم الوجود، وعدمكم العدم، وما بينهما خالصٌ لكم من دون العالمين، قد اجتباكم الله من عباده أجمعَ عليمًا من يصطفي لدينه خبيرًا من يختص بحفظه، ألا إني سمعته -سبحانه وبحمده- يقول: “وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ”، فلم أجد ذا فضلٍ من العالمين أولى بفضل الله في الأولين والآخرين منكم، ومن يدانيكم بشيءٍ تفضل به وقد تفضلتم بمُهَجكم تبذلونها رخيصةً لعلاء الإسلام وغلاء المسلمين! أما والله إنا لا نعرف أقرب قدْركم ولا نبلغ أدنى شكركم إلا مستعينين بالله المقتدر على ذلك، اللهم هذا رجاءٌ أتملُّقك به في عبادك السادة المجاهدين؛ فاسمعه وأنت خير المُكرمين.

أحاطكم الله في هذا الحرِّ بنسائمَ فردوسيةٍ ينزلها عليكم فتُرطِّبكم باطنًا وظاهرًا، وأعاضكم بصبركم هذا رضوانه الأكبر يوم تنظرون إلى وجهه في جواره وقد أسمى مجالسكم، وجرَّد قصدكم له تجريدًا، وسدَّد وجوهكم إليه تسديدًا، وعبَّد جوارحكم فيه تعبيدًا، ولا وَدَعَ باب فتنةٍ إلا أغلقه عليكم، ولا باب خيرٍ إلا فتحه لكم، وشغلكم حياتَكم كلَّها بالأجلِّ الأسنى؛ حتى يختم لكم بأعظم الخواتيم الحسنى، وأقبل بكم عليه مسلمين سالمين، مؤمنين آمنين، طيبين مطيبين، غير مقتحمين فتنةً ولا والغين شبهةً، وأعاذكم من شرور أنفسكم ومن سيئات أعمالكم، ووقاكم الجاهلية ظنَّها وحُكمَها وحميَّتها، ولا جعل مصيبتكم في دينكم، وقضى لكم في أهليكم ومن واليتم بخير القضاء، وعصم قلوبكم أن تزيغ، وخلائقكم أن تسوء، وعقولكم أن تضل، وأقدامكم أن تزول، ووضعكم حيث أحبَّ، واستعملكم فيما رضي، وثبت أفئدتكم، وملأ ألسنتكم لهجًا بذكره، ولا أخزاكم في قليلٍ ولا كثيرٍ، وأغاثكم برحمته التي وسعت كل شيءٍ، وفتح لكم في أكرم أبواب خيره الواسع العظيم، وأشهدكم مشاهد البررة، وعلَّمكم ما لا تعلمون، وبارك لكم على بصائركم؛ حتى لا تروا ولا تسمعوا ولا تبطشوا ولا تمشوا إلا به، وغفر لكم موجبات الحرمان والخذلان، وأجاركم أن تهونوا عليه فلا يبالي بكم، وأحاطكم بما أحاط به خُلصاءه توفيقًا وهدىً وعفوًا وعافيةً، ورفع رؤوسكم يوم “مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ” عاليةً عزيزةً؛ نعم المولى ونعم النصير.

أضف تعليق