“ربي أولى بي من نفسي”؛ عقيدةٌ لا يواسِي موحِّدًا في البلاء مثلُها، ولأُقرِّبن إليكم حقيقتها.
الأسير في محبسه؛ غاية مشتهاه أن يفتح له السجان باب الزنزانة فما تلاه من أبوابٍ مؤصدةٍ، ثم يلتقي أهله وأحبابه، ثم يؤوبَ إلى خيرٍ مما كان عليه في نفسه ومعاشه ودينه؛ أليس كذلك؟
المريض في مشفاه؛ غاية مشتهاه أن يبشره الطبيب بمعافاته التامة، وأن يرجع إلى أهله أطيبَ مما كان عليه نفسًا وحِسًّا، وأن يجبر الرحمن كسوره التي أصابته مدة أسقامه؛ أليس كذلك؟
الفقير في فاقته؛ غاية مشتهاه أن يغنيه الله ويكفيه، ويؤدِّي عنه دَينه، ويعوِّضه عما ذاق، ويبُلَّ وجهًا جفَّ ماؤه زمنَ الإقتار، وأن يبسط له مزيدًا فيكافئ كلَّ محسنٍ إليه بشيءٍ؛ أليس كذلك؟
المبتلى بالعشق؛ غاية مشتهاه أن يُبرِد الله على وصالٍ يرضاه كبدَه الحَرَّى، أو يشفيه من علته شفاءً لا يغادر ضُرًّا، وإن تكن الأولى دون الأخرى؛ فما أُحَيْلاها من ربٍّ ودودٍ! أليس كذلك؟
الأيِّم لا زوج له؛ غاية مشتهاه سكنٌ من زوجٍ يفضي كلٌّ إلى صاحبه، وأن يشهد فؤادُه وعدَ الأحد الصمد بمودةٍ ورحمةٍ، وسكنٌ من بيتٍ يؤويهما، وذريةٌ طيبةٌ لهما وللإسلام؛ أليس كذلك؟
المصاب في دِينه؛ غاية مشتهاه أن ييسِّر الله له من طاعاته ما عسُر، وأن يعسِّر عليه من معاصيه ما يسُر؛ في قلبه ولسانه وجوارحه، وأن يرده إليه غافرًا زلَّته قابلًا توبته؛ أليس كذلك؟
المكبَّل عن البذل لدينه؛ غاية مشتهاه أن يفتح الله له مغاليق ما أحبَّ من عملٍ في سبيله، وأن يجد عليه أشباهًا وأعوانًا، وأن يبعث الله به خوامده، لا تقرُّ عينه بشيءٍ دون ذلك؛ أليس كذلك؟
هؤلاء المبتلَون، وكل ذي بلوى في الناس سواهم؛ لو أن الله فعل لهم غاية ما يشتهون منه وزيادةً؛ ما كان ذلك في جنب تدبيره المحيط في (قضاءات البلاءات) شيئًا يُذكر؛ تلكم عقيدةٌ.
إني كلما قرأت قول الله -تعالى- في نبيه صلى الله عليه وسلم: “النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ”؛ اطمأنت نفسي سكينةً وسكن قلبي طمأنينةً إلى حُكم سيدي أبي القاسم؛ شيئًا عجبًا!
هذه ثقتنا بتدبير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لنا، وجَلَّ تدبيرًا؛ كيف بتولِّي الله -ذي الربوبية العظمى والصفات المثلى والألوهية العليا- أمورَنا وتدبيرِها؟ العبد عبدٌ والرب ربٌّ.
إن غاية رجاء المبتلى -كليلَ النظر عليلَ العمل- أن يُجاوز بلاءَه، والمسكين إن دبَّر لحاله شُغل عن مآله، وإن اعتنى بظاهره جَنَى على باطنه، وإن أصلح في نفسه فاته إصلاح غيره.
فأما مرادات الله بالبلاء فما أعظمَ وأوسعَ! في البواطن والظواهر، في الحال والمآل، في المعاني والمباني، لجريان السنن الربانية والحِكَم الشرعية، لتتجلَّى صفات الله جمالًا وجلالًا.
“لولا المِحَن لشككنا في الطريق”، “لولا مصائب الدنيا مع الاحتساب لوردنا القيامة مفاليس”؛ تلك من آثار فقهاء البلاء، فأما أفقه الخلق بالبلاء والعافية -صلى الله عليه- فيقول: “يودُّ أهل العافية يوم القيامة -حين يُعطَى أهلُ البلاء الثوابَ- لو أن جلودهم كانت قُرِّضت في الدنيا بالمقاريض”.
الآن صاح صائح العقيدة في بلائه: “ربي أولى بي من نفسي”، أحبُّ حالَيَّ إليَّ أحبُّهما إلى الله؛ سميعًا عليمًا، عزيزًا حكيمًا، برًّا كريمًا، عفوًّا حليمًا، رحمانًا رحيمًا؛ افعل بيَ اللهمَّ ربي ما تشاء.