إن ذنبًا ألان قلبك، وطيَّب

إن ذنبًا ألان قلبك، وطيَّب لسانك، وأخضع جوارحك؛ لأرجى حسناتك عند الله.

إن للعبادة التي خلقك الله لأجلها صورةً هي امتثال الأمر واجتناب النهي، وحقيقةً هي ذل القلب وإخبات النفس، وقد يبلغ عبدٌ -بترك المأمور، واقتراف المحظور- من حقيقة العبادة؛ ما لا يبلغه بصورتها.

هذا حرفٌ لا يحضك على المعاصي قبلها؛ لكنْ يدرك نفسك من القنوط بعدها.

إن العبد إذا أذنب فأعقب ذنبه توبةً؛ صار ذنبه قدرًا مقدورًا يتأمل في جوانبه حكمة الله؛ يقول: أذنبت فخشع قلبي وانقادت أركاني، أذنبت فذهب كبري وانقشع غروري، أذنبت ففهمت من أسماء الله وصفاته ما فهمت، أذنبت فوعيت من سنن الله ما وعيت، أذنبت ففقهت من أسرار الخلق والأمر ما فقهت، أذنبت فعرفت من نفسي ما عرفت، أذنبت فأشفقت على الخلق ما أشفقت، أذنبت فكرَّه الله إلي من عصيانه ما كرَّه، أذنبت فحبَّب الله إلي من رضوانه ما حبَّب، أذنبت فبعُد عني من الدنيا ما بعُد، أذنبت فدنا إلي من الآخرة ما دنا، أذنبت فأشهد الله قلبي من أنواع عبودياته ما أشهد، أذنبت فبصَّر الله عقلي من حِكَم شرائعه ما بصَّر، أذنبت فعُلِّمت من طرائق النفوذ إلى النفوس ما عُلِّمت، أذنبت فازددت لربي في قدره وشرعه تسليمًا، أذنبت فعاديت الجاهلية والشيطان وجنودهما، أذنبت فأحببت الله.

تلك والله “حسنات السيئات”، حُظوظ من عصى الله فعقل أمره؛ قد أفلح التوابون.

“قائد النصر”، “لقد انتصر الأسد”؛

“قائد النصر”، “لقد انتصر الأسد”؛ بعض لافتاتٍ تكتظُّ بها شوارع دمشق الحبيبة السليبة.

أمَا وربِّ الحُرَم؛ لو أن الله أخلى كتابه وسنة نبيه جميعًا من ذمِّ الجاهلية؛ لقامت حجته -تعالى- فيها على كل من ذاق آثار (ظنِّها وحُكمِها وحميَّتِها وتبرُّجِها)؛ تامةً لا لَبْسَ فيها من وجهٍ واحدٍ.

الأعراض التي انتهكت، الدماء التي سُفكت، جهنمُ الشام التي أُوقدت على أهلها بغير حقٍّ إلا أن يقولوا: ربنا الله، كل ذلك، وأعمُّ منه وأطمُّ؛ لأجل حكم فردٍ واحدٍ؛ ليقال: ظَفَر ابن غير أسدةٍ لَبُؤًا.

إحصاءاتهم تقول: قُتل أربعمائة ألفٍ أو يزيدون، وسُجنت ألوفٌ مؤلفةٌ، وملايين هجرت الأرض بعد خرابها؛ وملايين يطلبون اللجوء إلى بلادٍ أخرى، وللسماوات صادقاتٍ إحصاؤها وعدُّها.

ما كان على أبالسة نظام الجاهلية العالمي من بأسٍ؛ إذا سمحوا للثائرين أولَ الأمر ببعض ما كانوا يبتغون؟! وتالله ما خطر لهم -وقتئذٍ- غير إزاحة “فردٍ واحدٍ” على بالٍ، ولا طاف لهم بخيالٍ.

لكن لتُعَلَّم الشعوب الأدب مع طواغيتهم، وليلعنوا جهادهم، وليتماهَوا في عبوديتهم رغبًا في رهبٍ، ورهبًا في رغبٍ، وليُبَلِّغ شاهدُنا غائبَنا وكبيرُنا صغيرَنا وحيُّنا ميتَنا معنى “الثورة” وجزاءها.

الله أعلم بمآلات الأمور، لا نقول فيها ما يقول مأفون ابنُ ملعونٍ، وليست الكلمة الأخيرة لأمريكا ولا روسيا ولا إيران؛ بل لله فعَّالًا لما يريد، يبدئ كما يشاء ويعيد، ذو العرش المجيد، له الحكم.

يا أيها الذين آمنوا بالله والإسلام؛ هذا حكم الشيطان والجاهلية، “وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ”، لقد كنت أتلو قول الله -علا وتعالى-: “إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَآءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ”، فأعجب أشد العجب! إن يظفروا بنا يكونوا لنا أعداءً! أليسوا ببالغ العداوة حاربونا؟! كأن الله يقول: ما قبل تمكُّن عدوكم منكم شيءٌ، وما بعده شيءٌ آخر، جلَّ نعم المولى؛ لم يكتمنا في عدونا حديثًا.

يا حُماة الدين؛ من لم يستطع منكم ثأرًا من لُقطاء الزرائب؛ فمما أخرج الله من بين أصلابكم والترائب، أعدُّوهم لأعدائكم، وليرثوا منكم عداوتهم والبغضاء؛ حتى يبلغوا فيهم مشافي الصدور.

اربحوا “الولاء والبراء” عقيدةً تستحوذ على قلوبكم إذا قلَّت في عيونكم المرابح؛ الولاء للمسلمين كلهم على عُجَرِهِم وبُجَرِهِم، والبراء من الكافرين كلهم دانيهم قبل قَصِيِّهم، وكفى به ربحًا.

لكُم “جلاء الحق في أنفسكم فوق جلائه في نفسه” مغنمًا من ربكم؛ لا نصر يرتقب مجاهدًا إذا تردد بين خنادق الطهر وفنادق العهر؛ كما لا دار بين الجنة والنار تنتظر المذبذبين بين سبيليهما.

“التحرر من قبضة النظام العالمي”؛ هذا هو الإسلام عقيدةً وشريعةً؛ عقيدةٌ تشترط في قواعد توحيدها النفي قبل الإثبات، وشريعةٌ تشترط في بنيان أحكامها الإزاحة قبل الإحلال، ومهما تكن غايةً بعيدةً في العَيَان؛ فإنه يجب حفظها منهجًا في الأذهان، وأن تُوقف جهودُ النظر والعمل في دروبها

لسنا بالأغرار تُدهشنا فُجاءات الحروب؛ بل نعلم أنه الجهاد؛ مذ كان برضاء الله إلى يوم لا يكون بسخطه؛ دماءٌ وأشلاءٌ، أسرٌ وجرحٌ، دفعٌ وطلبٌ، نقضٌ وبناءٌ، تفريطٌ وغلوٌّ، نورٌ وعَمَايةٌ، كرٌّ وفرٌّ، حقٌّ وباطلٌ ومحتمَلٌ بينهما، غالبٌ ومغلوبٌ، حيث يتداخل الدينيُّ والسياسيُّ والاقتصاديُّ والاجتماعيُّ والعسكريُّ؛ فتكون سننُ الله بأهله؛ كيف به في زمنٍ عمَّ فيه الجهل وطمَّ فيه الظلم؟!

الصادقون أنفسَهم وربَّهم ودينَهم وأمَّتهم؛ لا يتعامَون عن خطاياهم في العمل دقيقِها قبل جليلِها، ولا يجعلون شيئًا من الهزيمة شأن عدوهم وحده؛ كما لا يتعقَّدون بحشد جمهرة أقدار الله (العظيمة المركَّبة الواسعة) في أنفسهم -وحدها- فيلعنونها؛ بل يتبصرون ما لهم وما عليهم، ويتدبرون آيات الله الكونية والشرعية، ويعتبرون بما فات لما هو آتٍ، والأيام دولٌ، والدهر قُلَّبٌ، والليالي حُبَالى.

“وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّآ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ * إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِن وَرَآئِهِمْ مُّحِيطٌ * بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ”.

والداك؛ تراهما أولى العالمين بك

والداك؛ تراهما أولى العالمين بك (مبتلىً)؟ مولاك الله أولى بك منهما.

نفسُك؛ كلما احتاجت إلى عضُدٍ بلا كللٍ، وإلى سندٍ بلا مللٍ؛ ذكرتَ أباك.

قلبُك؛ كلما افتقر إلى لطفٍ بغير سؤالٍ، وإلى عطفٍ بغير نوالٍ؛ ذكرتَ أمك.

في دخائل عامة الشدائد؛ لا تحسن بينهما تمييزًا، لا تدري أيهما أقرب لك نفعًا.

أصدُقك؛ لئن وجدتهما حقيقةً فلقد تفقدهما حُكْمًا؛ لا يبصران كل أوجاعك، يبصران ثم يغفلان، يذكران ثم يعجزان، يقدران ثم لا يكفيان، ولئن وجدتهما حقيقةً وحُكْمًا حينًا؛ فأيناهُما سائرَ الأحايين؟!

“لَلَهُ أرحمُ بعباده من هذه بولدها”؛ قالها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما رأى امرأةً في السَّبي وجدت ولدها بعد فقده والبحث عنه، فألصقته ببطنها وأرضعته؛ هنالك قالها؛ الله أولى به منها.

حين ينام الوالدان لا تأخذ القيومَ سنةٌ ولا نومٌ، وحين يغفلان فالشهيد بكل شيءٍ محيطٌ، وحين يعجزان لا يَؤود المقتدرَ أمرٌ في الخلق، وحين يسقمان فالصمد لا يبلغه أحدٌ نفعًا ولا ضَرًّا، وحين يغضبان فالكبير يدبِّر شأن من رضي ومن سخط، وحين يموتان فالحيُّ هو الآخِر الذي لا شيء بعده؛ ذلكم الربُّ.

لقد رأيت أمهاتٍ وآباء لا أوفى منهم حبًّا ورحمةً ورفقًا وحنانًا؛ لكن إذا غلبتهم فاقاتهم النفسية أو الحسية أو كلتاهما معًا؛ شُغلوا عن أبنائهم، وإن كانوا من قبل أن تنزل بهم عواصف المحن لا يُشغلون، ذلكم الإنسان؛ ضعفه وافتقاره وعجزه صفات ذاتٍ لازمةٌ، وقوته وغناه وقدرته صفات عرَضٍ زائلةٌ.

أما الله رب العالمين؛ فلا يَعدم عبدًا تدبيرًا؛ إن كان كافرًا أو فاجرًا دبَّر أمره تدبير ربوبيةٍ لا تتجاوز مربوبًا، وإن كان مؤمنًا صالحًا دبَّر أمره تدبير ربوبيةٍ عامًّا، وتدبير ألوهيةٍ خاصًّا؛ ذلكم الإله.

يا حبيبي؛ هذا حرفٌ لا يقول لك: استغن عن والديك؛ بل يقول: افتقر إلى الله، “وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى”.

“ربي أولى بي من نفسي”؛

“ربي أولى بي من نفسي”؛ عقيدةٌ لا يواسِي موحِّدًا في البلاء مثلُها، ولأُقرِّبن إليكم حقيقتها.

الأسير في محبسه؛ غاية مشتهاه أن يفتح له السجان باب الزنزانة فما تلاه من أبوابٍ مؤصدةٍ، ثم يلتقي أهله وأحبابه، ثم يؤوبَ إلى خيرٍ مما كان عليه في نفسه ومعاشه ودينه؛ أليس كذلك؟

المريض في مشفاه؛ غاية مشتهاه أن يبشره الطبيب بمعافاته التامة، وأن يرجع إلى أهله أطيبَ مما كان عليه نفسًا وحِسًّا، وأن يجبر الرحمن كسوره التي أصابته مدة أسقامه؛ أليس كذلك؟

الفقير في فاقته؛ غاية مشتهاه أن يغنيه الله ويكفيه، ويؤدِّي عنه دَينه، ويعوِّضه عما ذاق، ويبُلَّ وجهًا جفَّ ماؤه زمنَ الإقتار، وأن يبسط له مزيدًا فيكافئ كلَّ محسنٍ إليه بشيءٍ؛ أليس كذلك؟

المبتلى بالعشق؛ غاية مشتهاه أن يُبرِد الله على وصالٍ يرضاه كبدَه الحَرَّى، أو يشفيه من علته شفاءً لا يغادر ضُرًّا، وإن تكن الأولى دون الأخرى؛ فما أُحَيْلاها من ربٍّ ودودٍ! أليس كذلك؟

الأيِّم لا زوج له؛ غاية مشتهاه سكنٌ من زوجٍ يفضي كلٌّ إلى صاحبه، وأن يشهد فؤادُه وعدَ الأحد الصمد بمودةٍ ورحمةٍ، وسكنٌ من بيتٍ يؤويهما، وذريةٌ طيبةٌ لهما وللإسلام؛ أليس كذلك؟

المصاب في دِينه؛ غاية مشتهاه أن ييسِّر الله له من طاعاته ما عسُر، وأن يعسِّر عليه من معاصيه ما يسُر؛ في قلبه ولسانه وجوارحه، وأن يرده إليه غافرًا زلَّته قابلًا توبته؛ أليس كذلك؟

المكبَّل عن البذل لدينه؛ غاية مشتهاه أن يفتح الله له مغاليق ما أحبَّ من عملٍ في سبيله، وأن يجد عليه أشباهًا وأعوانًا، وأن يبعث الله به خوامده، لا تقرُّ عينه بشيءٍ دون ذلك؛ أليس كذلك؟

هؤلاء المبتلَون، وكل ذي بلوى في الناس سواهم؛ لو أن الله فعل لهم غاية ما يشتهون منه وزيادةً؛ ما كان ذلك في جنب تدبيره المحيط في (قضاءات البلاءات) شيئًا يُذكر؛ تلكم عقيدةٌ.

إني كلما قرأت قول الله -تعالى- في نبيه صلى الله عليه وسلم: “النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ”؛ اطمأنت نفسي سكينةً وسكن قلبي طمأنينةً إلى حُكم سيدي أبي القاسم؛ شيئًا عجبًا!

هذه ثقتنا بتدبير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لنا، وجَلَّ تدبيرًا؛ كيف بتولِّي الله -ذي الربوبية العظمى والصفات المثلى والألوهية العليا- أمورَنا وتدبيرِها؟ العبد عبدٌ والرب ربٌّ.

إن غاية رجاء المبتلى -كليلَ النظر عليلَ العمل- أن يُجاوز بلاءَه، والمسكين إن دبَّر لحاله شُغل عن مآله، وإن اعتنى بظاهره جَنَى على باطنه، وإن أصلح في نفسه فاته إصلاح غيره.

فأما مرادات الله بالبلاء فما أعظمَ وأوسعَ! في البواطن والظواهر، في الحال والمآل، في المعاني والمباني، لجريان السنن الربانية والحِكَم الشرعية، لتتجلَّى صفات الله جمالًا وجلالًا.

“لولا المِحَن لشككنا في الطريق”، “لولا مصائب الدنيا مع الاحتساب لوردنا القيامة مفاليس”؛ تلك من آثار فقهاء البلاء، فأما أفقه الخلق بالبلاء والعافية -صلى الله عليه- فيقول: “يودُّ أهل العافية يوم القيامة -حين يُعطَى أهلُ البلاء الثوابَ- لو أن جلودهم كانت قُرِّضت في الدنيا بالمقاريض”.

الآن صاح صائح العقيدة في بلائه: “ربي أولى بي من نفسي”، أحبُّ حالَيَّ إليَّ أحبُّهما إلى الله؛ سميعًا عليمًا، عزيزًا حكيمًا، برًّا كريمًا، عفوًّا حليمًا، رحمانًا رحيمًا؛ افعل بيَ اللهمَّ ربي ما تشاء.

ابتلاه الله رحيمًا حكيمًا، فصبر،

ابتلاه الله رحيمًا حكيمًا، فصبر، فأخذ قلبه في اليقظة، وعقله في الصحو، وروحه في السكينة.

زاد الله بلاءه، فصبر، فذل قلبه، وأخبتت نفسه، وكُفَّ لسانه عن مغاضب الله رطبًا بذكره، وحُفظت جوارحه عن مساخط الله شغلًا بمراضيه؛ الآن لانت نفسه بعدما جاهدها (في العافية) طويلًا.

شدَّد الله بلاءه، فصبر، فشهد في قلبه حقائق عبوديات ربه، تلك التي خُلق لأجلها وكان يغويه براحُ العافية عنها؛ الآن يذوق معنى التألُّه، ومعنى التجرد، ومعنى الافتقار، ومعنى الأنس، الآن يتحقق بالتفويض على وجهه، وبالتوكل على وجهه، وبالخوف على وجهه، وبالرجاء على وجهه.

ضاعف الله بلاءه، فصبر، فبُغِّضت إليه المعاصي قريبُها قبل بعيدها، وحُبِّبت إليه الطاعات بعيدُها قبل قريبها؛ الآن هو “عبدٌ” كما أراد الله له، له من حقيقة العبادة -لا من صورتها- أوفرُ نصيبٍ.

أطال الله بلاءه، فصبر، فبات بصرُه بدناءة الدنيا حديدًا؛ الآن تنفذ إليها أنواره فيراها عاريةً شوهاءَ كما هي، بلا ثوب شهوةٍ ولا زينة فتنةٍ، الآن هو عاجزٌ عن شكر ربه أن باعد بينه وبين أن يقال له عند موته: “لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ”، الآن بصره حديدٌ.

أرْبَى الله بلاءه، فصبر، فصار بأسماء ربه وصفاته عليمًا؛ الآن يدرك فيها قلبُه من بدائع الأسرار؛ ما لا يبلغ كثيرٌ من الحفاظ والنُّظار، لقد عاين من آثارها في نفسه وحسِّه ما عاين، وليس خبرٌ كعَيَانٍ.

بسط الله بلاءه، فصبر، فأصبح بنفسه خبيرًا بصيرًا، وتكشَّف له منها ما كان خافيًا، ولو عاش ضعف عمره (في العافية)؛ ما بلغ فقهه بها هذا المبلغ اللطيف، ومعرفة الناس فرعٌ على معرفة النفس؛ الآن أضحى ببلائه عظيم الشعور بهم، وافي الرحمة لهم، كريم الإشفاق عليهم، حكيم التأتِّي إليهم.

“والصبر ضياءٌ”؛ ما كان قول إمام الصبر -صلى الله عليه وسلم- إذًا إلا وحيًا يوحى؛ ضياءٌ ينير في صاحبه كل شيءٍ، وينير له كل شيءٍ، وهو مرٌّ إلا على من حلَّاه الله له، وكفى بالله جميلًا.

أحد مشاهير الرد على الإلحاد،

أحد مشاهير الرد على الإلحاد، طالب علمٍ موفقٌ في بابه، ينفع الله به فئامًا من الناس؛ صلته ببعض أكابر مجرمي حزب الزور ظاهرةٌ لا تخفى، لا أقصد آحاد ذكران الحزب، ولا عامة قياداته، وكلهم مجرمون عليهم من الجبار ما يستحقون؛ بل غيرَهم ممن تخجل من فعالهم بعض الشياطين.

إني والله لأعجب أشد العجب! أليس من أعظم أسباب الإلحاد النفسي في زماننا هؤلاء الأوباش الحقراء من وجوهٍ لا تخفى على أحدٍ؟! كيف يجاهد هذا الدكتور الإلحاد -زَعَمَ- ثم يصاحبهم كذلك؟!

أولست على ثغرٍ من ثغور الاعتقاد يا هذا؟! أليس أول الإيمان الكفر بالطاغوت؟! “فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا”؛ أم أنك تذهب في “الحُمُر المستنفرة” مذهب المخذول الذائد عن “عَمْيْ خالد” -ذات خنزرة نفسٍ- قائلًا: إن ما فعله “اجتهادٌ سياسيٌّ”!

لو شئت أن أسمي من أردت فعلت؛ فلا يسمِّ أحدٌ أحدًا بربكم، ومن فعل فقد أساء إلي واعتدى علي.

مشِّي حالك. وانت مالك؟ ربَّك

مشِّي حالك.
وانت مالك؟
ربَّك لما يريد.
ما احنا قلنا لك.
مِن خاف؛ سِلِم.
أنا عبد المأمور.
دعِ الملك للمالك.
اعمل نفسك ميت.
كل وقت ولُه أدان.
الحيطان ليها ودان.
عايزين ناكل عيش.
آدي دقني؛ لو فِلحت.
الكون ده ليه صاحب.
احنا احسن من غيرنا.
أشطر منك؛ ومقدرش.
ربنا ما يجيب مشاكل.
مش عملت دكر؟ كمِّل.
عيش نملة؛ تاكل سكر.
اتمسكن؛ لحد ما تتمكن.
احنا غلابة، وهُمَّ ديابة.
كان حد قال لك تتنصح؟
مطرح ما ترسى؛ دق لها.
الموت مع الجماعة رحمة.
امسك العصايه من نصها.
عيش جبان؛ تموت مستور.
على أد لحافنا؛ بنمد رجلينا.
لو شيخك عِجْل؛ حِش واديله.
ولو طلع حمار؛ اتشعلق بديله.
احييني النهارده، وموِّتني بكرة.
ودن من طين، وودن من عجين.
ليس في الإمكان أحسن مما كان.
اللي بيبص لفوق؛ بتتكسر رقبته.
علَّقها في رقبة عالم، واطلع سالم.
اللي يتجوز أمي؛ أقول له يا عمي.
ابن الوزير وزير، وابن الفلاح فلاح.
امشي جنب الحيط، وابعد عن الزيط.
يا بخت من بات مظلوم، ولا باتش ظالم.
اربط الحمار مطرح ما يقول لك صاحبه.
إن جالك الطوفان؛ حط ابنك تحت رجليك.
الباب اللي تيجي منه الريح؛ سدُّه واستريح.
إن كان ليك حاجة عند الكلب؛ قل له يا سيدي.
حط راسك بين الروس، وقول يا قطاع الروس.
الإيد اللي تضربك بوسها، وادعي عليها بالكسر.
اهلك الظالمين بالظالمين، وخرَّجنا من بينهم سالمين.
هذه حفنة أمثالٍ شعبيةٍ، هاتكةٍ لحالٍ رديَّةٍ، بعضٌ من ثقافةٍ سمعيةٍ، ذاتِ إحداثاتٍ عميقةٍ واسعةٍ قويةٍ؛ بدورانيتها التلقائية، وتداولياتها الطبيعية، وصياغاتها الحِكَمية، وتراثيتها الفولكلورية، ورثتها أجيالٌ غَضَّةٌ طريَّةٌ؛ من آباء وجدود الانهزامية، عبر أثير الوجدانية الآبائية، وقنوات العاطفة العبثية، ودعاوى السلامة والمصلحية، ومزاعم الضرورات المعيشية، والملابسات المجتمعية، والضغوطات المادية، والإكراهات السلطوية، والإحواجات السياسية؛ حتى تمكنت بإلحاحاتها الحياتية، في منظومةٍ كاملةٍ للسلبية، وأمراضٍ أخرى شديدةٍ عصيَّةٍ، من الفتك بجمهرة الفِطَر النقية، والعقول المستقيمة السوية؛ فصيرتْ أصحابها مُسوخًا بشريةً، منحطةً عن رتبة الإنسانية، ودرجة الآدمية؛ لا يبالون بكرامةٍ ولا يحفلون بحريةٍ؛ أولئك رُزء الأمة على كل بليَّةٍ؛ فهم عالةٌ عليها وذخيرةٌ للجاهلية.

كيف عقيدة [هنالك] في قلوبكم

كيف عقيدة [هنالك] في قلوبكم يا أصحابي؟

لقد كانت سنة الفقهاء بربهم -جلَّ فضلُه- كلما أفاض عليهم عطاءً خاصًّا مما تتجلى فيه القدرة مع الرحمة؛ أن يغتنموا ساعة فيض ربهم الكريم هذه، فيسألوه [هنالك] شيئًا عظيمًا لا يُسأل عادةً.

– زكريا عليه السلام؛ كان كلما دخل على مريم -عليها السلام- المحراب، وجد فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف، فسألها عن ذلك، فأخبرته أنها من عند الله، وأن الله يرزق من يشاء بغير حسابٍ؛ [هنالك] “دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ ۖ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً”؛ أليس هذا عطاءك يارب على غير أسبابٍ مُواتيةٍ؟! فأنا أسألك شيئًا عظيمًا كذلك؛ أسألك ذريةً طيبةً؛ وليًّا يرثني في النبوة، وإن أسبابي غير مُواتيةٍ يارب؛ قد بلغني الكبر وامرأتي عاقرٌ، “فَنَادَتْهُ الْمَلَآئِكَةُ وَهُوَ قَآئِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ”.

– إبراهيم عليه السلام؛ أولاه الله عطاءً خاصًّا، فقال له: “إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا”؛ [هنالك] اغتنم إبراهيم ساعة فيض ربه الكريم هذه، فقال: “وَمِن ذُرِّيَّتِي”، فقال الله: “لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ”.

– موسى عليه السلام؛ نبَّأه الله بوحيه إليه في الواد المقدس، ثم زاده من خاصِّ عطائه فجعله رسولًا، وإلى أعتى أعدائه، فقال: “اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ”؛ [هنالك] اغتنم موسى ساعة فيض ربه الكريم هذه، فقال: “وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي”، فأوحى الله إليه: “قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَىٰ”.

– موسى عليه السلام كذلك؛ بسط الله له القرب فأتم لياليه أربعين، ثم خصَّه بعطاء التكليم؛ [هنالك] اغتنم موسى ساعة فيض ربه الكريم هذه، فقال: “رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ”، فقال الله له: “لَن تَرَانِي”.

– عائشة رضي الله عنها؛ رأت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طِيبَ نفسٍ، وذلك والله عطاءٌ خاصٌّ؛ أن يُرى رسول الله طيِّب النفس؛ [هنالك] اغتنمت عائشة ساعة فيض ربها الكريم هذه، فقالت: يا رسول الله؛ ادع لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اللهم اغفر لعائشة ما تقدم من ذنبها وما تأخر، وما أسرت وما أعلنت”، فسُرت، وضحكت حتى سقط رأسها في حجرها، فقال رسول الله لها: “أيسرك دعائي؟”، قالت: وما بي لا يسرني دعاؤك؟ قال: “فإنها دعوتي لأمتي في كل صلاةٍ”.

– ربيعة بن كعبٍ رضي الله عنه؛ شرفه الله بخدمة نبيه، ثم ضاعف المنة عليه بخاصِّ العطاء، فألهم رسوله -صلى الله عليه وسلم- يومًا أن يسأله عما يحب؛ [هنالك] اغتنم ربيعة ساعة فيض ربه الكريم هذه، فسأل رسول الله مرافقته في الجنة، فقال رسول الله له: “أعني على ذلك بكثرة السجود”.

إذا تأملت هذه الأمثلة؛ وجدت القدْر المشترك بينها هو؛ “اغتنام الأنبياء والأولياء ساعات العطاء”، وقد يستجيب الله -سبحانه- برحمته؛ كما فعل لنبيه زكريا في طلبه الذرية فبشره بيحيى، وكما فعل لنبيه موسى في طلبه نبوة هارون فجعله نبيًّا، وكما فعل لعائشة في طلبها دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، فدعا لها بأعظمه، وقد لا يستجيب -تعالى- بحكمته؛ كما كان مع موسى في طلبه الرؤية لأن محلَّها جوارُه الأعلى، وكما كان مع إبراهيم في طلبه الإمامة في جميع ذريته، فعلَّمه الله أن إمامة الناس فضلٌ خاصٌّ لا ينال إلا المقسطين أمثالَه، وكما كان مع ربيعة في طلبه من النبي -صلى الله عليه وسلم- مرافقته في الجنة، فعلَّمه الرسول أن لهذه الدرجة الرفيعة سببًا لا بد منه؛ وهو كثرة السجود.

أيها الفقراء إلى الله؛ كونوا بالله فقهاء، فإذا خصَّ أحدكم بعطاءٍ منه فليغتنم ساعة فيضه الكريم، وليسأله [هنالك] شيئًا عظيمًا يليق بها، إن ربكم الكريم إذا أعطى أدهش، وإن عطاءه بغير حسابٍ.

قال قائلٌ منكم: ما نفقه عن الله لتطمئن قلوبنا بعقيدة [هنالك]؟ قلت: إذا فقهتم عنه -تبارك برُّه- عقيدة [كذلك]، بأول تعليقٍ حديثٌ عنها لأخي صديقي حبيبي الشيخ سمير مصطفى، فكَّ الله أسره.

“ما عدت ملتزمًا، لقد انتكست،

“ما عدت ملتزمًا، لقد انتكست، مات قلبي”.

لا يصيب شيطانٌ من عبدٍ مرادَه كما يصيب بهذه العناوين، ولا تزال بصاحبها حتى يكون كذلك، وأبعدَ من ذلك، ولقد نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحدَنا أن يقول: “خبُثت نفسي”، وليقل: “لَقِسَتْ نفسي”، مع أن الفرق بينهما يسيرٌ من جهة المعنى؛ لكنه عنوانٌ يسجن صاحبه في موضوعه.

“ما عدت ملتزمًا، لقد انتكست، مات قلبي”؛ إذا كان ذلك كذلك؛ فلا عليَّ من كل طاعةٍ أفرِّط فيها، ولا عليَّ من كل معصيةٍ أقارفها، ولا عليَّ إذا هجرت الأبرار لئلا أدنِّسهم بآثامي التي لا يعرفونها، ولا عليَّ إذا صاحبت الفجار الذين صرت لهم شبيهًا، ولا عليَّ إذا لم أحمل للإسلام همًّا ولأهله قضيةً.

“ما عدت ملتزمًا، لقد انتكست، مات قلبي”؛ هذه العناوين من جملة مداخل الشيطان “اليمينية” إلى قلوب المؤمنين، والمداخل اليمينية هي التي قال فيها اللعين قديمًا: “وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ”؛ أي من جهة الحق والخير والإحسان، وهي أضرُّ على العبد -لخداع فتنتها- من مداخل الشيطان “الشِّمالية” الصريحة.

“ما عدت ملتزمًا، لقد انتكست، مات قلبي”؛ صورة يأسٍ خفيٍّ من رَوْح الله، وقنوطٍ مستترٍ من رحمته ومغفرته، مهما ألبسها صاحبها -واعيًا أو غير واعٍ- لَبُوس الحطِّ من نفسه وسوءِ الظن بها.

“ما عدت ملتزمًا، لقد انتكست، مات قلبي”؛ إن إزراء العبد بنفسه من شواهد عبوديته؛ لكنه إذا بلغ ذلك كان سوءًا مستطيرًا، ومَرْكَبًا للشيطان من النفس إلى بلوغ الكفر بالله، ما الكفر بالله -هنا- دقُّ الصُّلبان، ولا إنكار وجود الرحمن؛ بل ركوب الموبقات جملةً، وترك الفرائض جملةً، مع موالاة الفاسقين فالظالمين فالكافرين على خطواتٍ متتابعاتٍ، ولقد سمعنا حتى وَجِعْنا وأبصرنا حتى أقصرنا.

“ما عدت ملتزمًا، لقد انتكست، مات قلبي”؛ فأنَّى لغارقٍ مثلي أن يأمر بمعروفٍ أو ينهى عن منكرٍ؟! وجَهِل هذا المسكين أن من أوسع أبواب نجاته من ظلماته؛ “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، ودونكم هذه الدرة النادرة لشيخ الإسلام ابن تيمية يحكيها صاحبه ابن القيم -رحمهما الله- قال: “انظر إلى موسى صلوات الله وسلامه عليه؛ رمى الألواح التي فيها كلام الله الذي كتبه بيده فكسرها، وجرَّ بلحية نبيٍّ مثلِه وهو هارون، ولطم عين ملك الموت ففقأها، وعاتب ربه ليلة الإسراء في محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- ورفعِه عليه، وربه تعالى يحتمل له ذلك كله، ويحبه ويكرمه؛ لأنه قام لله تلك المقامات العظيمة في مقابلة أعدى عدوٍّ له، وصَدَع بأمره، وعالج أمَّتَي القبط وبني إسرائيل أشدَّ المعالجة، فكانت هذه الأمور كالشعرة في البحر. وانظر إلى يونس عليه السلام؛ حيث لم يكن له هذه المقامات التي لموسى، غاضب ربه مرةً، فأخذه وسجنه في بطن الحوت، ولم يحتمل له ما احتمل لموسى”.

“ما عدت ملتزمًا، لقد انتكست، مات قلبي”؛ يخبرك الإسلام عن زيادة إيمان عبدٍ حتى لكأنه يرى الله، وعن نقصان إيمان عبدٍ حتى لكأن الله -تعالت إحاطته- لا يراه؛ لكنه لا يقضي بهذه العناوين الكلية على عبدٍ قضاءً؛ إلا عبدًا تنكَّب سبيل الله باطنًا وظاهرًا، وأحاطت به بوائقه على القبول والرضا.

“ما عدت ملتزمًا، لقد انتكست، مات قلبي”؛ تكشف وزن الخلل الشائع في معنى الاستقامة عند عامة المسلمين، وما الاستقامة -عند الله ورسوله- إلا جهاد العبد نفسَه باطنًا وظاهرًا على الثبات في الأمر، فإن فرَّط في طاعةٍ أو قارف معصيةً جاهدها في التوبة والإنابة، لا يضيره شيءٌ ما بقي كذلك.

“ما عدت ملتزمًا، لقد انتكست، مات قلبي”؛ حيلةٌ نفسيةٌ غير واعيةٍ لمداراة القعود عن معالي الأمور، والرضا بالخسف، والتصالح مع البطالة، ولو فقه قائلوها ما قالوها. وبالله السلامة والسداد.

هل أدركتك يومًا “غيرةٌ” من

هل أدركتك يومًا “غيرةٌ” من السماوات والأرض وما فيهما؛ سوى الناس؟!

اتل هذه الآية -جامعًا قلبك- ولتدركنك غيرةٌ ليس كمثلها غيرةٌ؛ “أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَآبُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ”.

يذكر الله سجود السماوات ومن فيهن بلا قيدٍ ولا استثناءٍ، وسجود الأرض ومن فيها بلا قيدٍ ولا استثناءٍ، وسجود الشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر بلا قيدٍ ولا استثناءٍ، (حتى الدواب) بلا قيدٍ ولا استثناءٍ؛ فإذا جاء ذكرنا نحن -نحن دون كل هؤلاء- قال الله سبحانه وتعالى: “وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ”.

قال قائلٌ: لا عجب؛ ألسنا الخلقَ الذين جعل الله إرادتهم حرةً ولم يقهرهم على عبادته كما فعل في السماوات؛ “فَقَالَ لَهَا وَلِلْأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ”، وأَبَيْن حمل الأمانة؟!

قلت: بلى يا صاحبي أعلم؛ لكنَّ حقَّ الله -وقد خصنا بأنواع الإنعام والإكرام دون كل من ذكر- أن تسجد له قلوبنا وأقوالنا وأعمالنا ما بقينا أحياء أجمعون، يا صاحبي؛ إني امرؤٌ أعشق الوفاء والشكران مع الناس؛ كيف بهما مع رب الناس ملك الناس إله الناس؟ يا صاحبي؛ إني مثلك مفرِّط مذنبٌ؛ لكن قد قامت عليَّ الحجة بذوق “الحب”، ولقد جربت الغيرة على المحبوب أن يزاحمني فيه غيري؛ كيف لا أغار من هؤلاء أن يسبقوني إلى أمر المحبوب الأعظم بأسرع الجواب؛ “أَتَيْنَا طَآئِعِينَ”؟!

قال: هوِّن على نفسك؛ فلسنا كالسماوات والأرض قوةً؛ “لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ”، “أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَآءُ” .. “وَالْأَرْضَ” .. “وَالْجِبَالَ”، قلت: صدقت يا صاحبي وصدق الله من قبلك؛ لكن لئن قوَّى الله هذه الخلائق من وجهٍ؛ فلقد أضعفها من وجهٍ آخر؛ إنها تعبد الله قهرًا واضطرارًا، فأما عبادتنا لله فإنها طواعيةٌ واختيارٌ، يا صاحبي؛ إننا بها الوجه أقوى من السماوات والأرض ومن فيهن، يا صاحبي؛ نحن إذ نؤثر الله على كل من عداه (محبةً حرةً، واختيارًا خالصًا)؛ “خَيْرُ الْبَرِيَّةِ”.

إن تابعيًّا جليلًا هو أبو مسلمٍ الخولاني -رضي الله عنه- كان يقوم الليل أحسن القيام، فإذا تعب من قيامه ضرب رجليه بسوطٍ، وقال لهما: “قوما وانتصبا بين يدي الله؛ أيظن أصحاب محمدٍ أن يستأثروا به دوننا؟ كلا والله؛ لنزاحمنهم عليه زحامًا؛ حتى يعلموا أنهم قد خلفوا وراءهم رجالًا”؛ هذه الغيرة التي أعني يا صاحبي، هذه الغيرة التي تستحق احتراق القلوب، أشعِل بها اللهمَّ في حبك قلوبنا.